البشر لا يموتون دفعة واحدة بعضهم يموت حين يُدفن، والبعض الآخر يموت عندما يُنسى، بينما هناك من يرفض الموت، فيبقى حياً في الذاكرة، في الندم، في التفاصيل، في الجُمل المقطوعة، في المشهد الأخير الذي لم يُكتمل ! هذا هو الإرث الحقيقي للإنسان: أن يبقى بعد أن يرحل، لا بجسده، بل بأثره ، لكن من قال إن البقاء نعمة؟ ومن قال إن الرحيل لعنة؟
هناك من يعيش عمراً كاملاً كأنّه ضيف ثقيل في مأدبة الحياة، لا يُخلّف سوى عبء الذكرى ووزن الغياب ، وهناك من يمر كالشهاب: يحترق، يختفي، لكنه يترك خطاً ضوئياً في السماء يُحاكيه الناس لأجيال هنا يُصاغ الفارق بين من مرّ ومن بقي !
نحن نُراكم الأشياء ونظنّ أننا نبني إرثاً، نجمّع الكتب، نكدّس الصور، نُغرق الأدراج بالخطابات والاعترافات، نملأ الجدران بشهادات الامتياز، نظن أنها ستتكلم عنا ذات يوم لكنها لا تفعل !
الورق يصفرّ، الصور تبهت، الصوت يُمحى من التسجيلات، لا يبقى سوى الشعور الغامض الذي يخلفه حضورك حتى بعد غيابك ، الإرث ليس ما كتبت، بل ما جعل الآخرين يشعرون به دون أن تكتب !
أن تترك إرثاً لا يعني أن تترك وصية ، الإرث هو ذلك الفراغ الذي يخنق من بعدك، هو سؤال لم يُجب عليه، ضحكة لم تُكرر، عادة صغيرة توقفت، كوب على الرف لم يُستخدم منذ أن غادرت ، هو الصمت الذي يشتدّ كلما ذكروا اسمك، والعيون التي تهرب من النظر مباشرة كلما مرّ وجهك في الذهن. بعض الناس يبقون في الطرقات في المقاهي التي كانوا يرتادونها، في المقعد الذي كان لا يجلس فيه سواهم، في رائحة العطر التي تظهر فجأة دون تفسير. في جُملة يقولها طفل دون أن يعرف أنه يكرر شيئاً كان يردده أبوه في نصف سطر مكتوب على كتاب مُستعمل: (لا تنسى أن تبتسم) في يدٍ تتلمس مقبض بابٍ ما زال يحتفظ بحرارة راحل.
نحن لا نترك إرثاً بالوعي، نحن نُشعّره ، لكن كم من البشر قضوا أعمارهم وهم يحفرون أسماءهم على جدران التاريخ ولم يتذكرهم أحد؟ وكم من الغرباء مرّوا كعابري حلم، لكنهم صاروا مرجعية وجدانية في ذاكرة العابرين؟
الحياة تُخادعنا، تُقنعنا أن المجد لا يموت، أن الاسم يبقى، أن الكاميرا تحفظ كل شيء لكن الكاميرا لا تلتقط سوى الضوء، لا حرارة ولا رائحة ولا نبرة ارتجفت في لحظة انتصار ، لا شيء يُبقيك مثل الألم الذي تسببت به أو النصر الذي زرعته ، البقاء بعد الرحيل لا يُقاس بعدد المتابعين، ولا بنُصبٍ رخاميّ، بل بعمق اللحظة التي كنت فيها ضرورة لأحدهم. أن يُقال يوماً : لو كان فلان هنا لفهمني ، تلك هي ملامح الخلود ، البعض يختار أن يُبقي إرثه في الكتب، وآخرون في الأبناء، وآخرون في الفن، وهناك من يكتفي بترك روحٍ ملوّنة في قلبٍ واحد فيكفيه ذلك. الإرث ليس ما تُعلّمه بل ما تتركه عالقاً في أرواح من لامستهم.
هناك من يرحلون ويُخلفون صمتاً وهناك من يرحلون ويتركون ضجيجاً طويلاً لدرجة أن الزمن يتوقف قليلاً كلما مر طيفهم. وكأنهم أرغموا الزمن على احترامهم.
لكن هذا لا يحدث مصادفة، بل يحدث حين يعيش الإنسان بصدق، حين يقاتل بصدق، حين يفشل وينهار ثم يقوم بصدق، حين يخسر دون أن يُلغي الآخر، حين يعترف بضعفه دون أن يُسقط صورته، حين يُترك لكنه لا يردّ الأذى، حين يتخلّى عن المجد ليمنح أحدهم فرصة.
أثر الإنسان في الآخر لا يُخلق من الكبرياء ولا من العظمة المصطنعة، بل من التفاصيل الصغيرة. من كلمة (أنا هنا) من عناقٍ لم يكن مطلوباً لكنه أتى، من إنصات صادق، من قبلة على جبينٍ مُتعب، من عذرٍ قيل بصوتٍ خفيض، من دفءٍ في زمنٍ بارد.
نحن نولد موقّتين لكن هناك من يخترق هذا التوقيت كأنّه كُسِرَ فيهم المؤقّت. هناك أناس لم يكونوا أعظم البشر، لكنهم كانوا الأهم في حياة من عرفهم. لا تجد لهم تمثالاً، لكنك تجد أرواحاً تمشي باسمهم، تتحدث بلغتهم، وتبتسم بنفس طريقتهم، وكأنهم بعثوا في من بعدهم.
السؤال الذي يخلع النوم من تحت الجفون ليس: ماذا تركت بعد موتك؟
بل هو: من بقي منك بعدك؟
ليس من ورث بيتك أو رصيدك أو حتى مكتبتك، بل من ما زال يحمل صوتك في قراراته، ومن يتذكرك حين يشعر بالخذلان لأنه يعرف أنك كنت ستقول له (اصمد)
إن أخطر أشكال البقاء هو أن تتحول إلى معيار:
أن يُقارن بك اللاحقون، أن يقول أحدهم: ما كنت لأتأذى لو كان فلان حياً أو هذا الموقف لا يشبهه ، أو أفتقد حكمته
لكن كم منّا سيصل إلى هذا النوع من الخلود؟
من مِنّا سيبقى ظله يرافق من بعده دون أن يُدعى، دون أن يُستدعى، فقط لأنّه لم يُغادر تماماً؟
نعم هناك من يرحلون ويأخذون معهم شيئاً لا يُعوّض وهناك من يرحلون، ويتركون كل شيء أفضل مما كان وهناك من يرحلون ولا أحد ينتبه أنهم رحلوا.
اختر أي نوع من الرحيل تريد.
لكن تذكّر أن جسدك سيموت، أما ظلك فربما لا يختفي أبداً.
ويا ليتنا نعلم أن الإرث الحقّ لا يُبنى من الطين، بل من الأثر النفسي ويا ليتنا نؤمن أن بقاءنا في الآخرين أهم من بقائنا في السجلات.
الموت قد لا يُنهيك. لكن النسيان يفعل.
فلا تُقاتل كي تعيش أطول
بل قاتل كي يبقى ظلك حتى بعد أن يختفي جسدك.