تشهد غزة حرب إبادة منهجية تمزق نسيج الإنسانية، وتدفع العالم نحو هاوية أخلاقية لا رجعة منها، فمنذ ما بعد السابع من أكتوبر 2023، تمارس إسرائيل جرائم حرب ممنهجة تحت سمع العالم وبصره، مستهدفة الوجود الفلسطيني برمته عبر ثلاثية القتل والتجويع والتدمير، حتى تجاوز عدد الضحايا مئات الاف بين قتيل ومفقود تحت الركام وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، بينما يحاصر المدنيون بين خيارين مأساويين؛ الموت تحت القصف أو الموت جوعاً بعد تدمير منظومة الغذاء والصحة، الامر الذي نقل طبيعة هذه الحرب من صراع عسكري، لتشكل اختباراً مصيرياً لضمير البشرية وقدرتها على حماية قيمها الأساسية.
تعكس الأرقام الصادمة حجم الكارثة الإنسانية والتي تشير بوضوح الى ان آلة الدمار الاسرائيلية انما تعتمد إستراتيجية ابادة منظمة، حيث دمرت 88% من قطاع غزة، مع هدم 210 آلاف وحدة سكنية بشكل كامل، و110 آلاف أخرى غير صالحة للسكن، كما دمرت إسرائيل 38 مستشفى و82 مركزاً طبياً و164 مؤسسة صحية، بالإضافة إلى تدمير 144 سيارة إسعاف و54 مركبة إنقاذ، هذا التدمير ليس عشوائياً، بل ينفذ وفق خطة ممنهجة كشفها جنود إسرائيليون اعترفوا بأنهم “يهدمون 60 منزلاً يومياً” بهدف جعل القطاع “غير صالح للحياة”، وفي القدس المحتلة، هدمت السلطات الإسرائيلية 623 منزلاً ومنشأة فلسطينية منذ بدء الحرب، في محاولة لطمس الوجود الفلسطيني تحت ذرائع واهية.
تحولت إسرائيل بمنهجيتها إلى نموذج صارخ لدولة تمارس انتهاكات تجاوزت كل الحدود خارقة للقانون الدولي، فاستهداف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وتجويع 2.5 مليون إنسان عبر حصار مشدد، وتدمير متعمد لـ 719 بئر ماء و3,780 كم من شبكات الكهرباء، كلها جرائم حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، والأخطر هو اعتراف قادة إسرائيليون صراحة بنواياهم؛ فنتنياهو صرح في جلسة مغلقة للكنيست: “ندمر المنازل حتى لايجد الفلسطينيون مكانا يعودون إليه، والنتيجة ستكون هجرتهم”، هذه السياسة تؤسس لنظام أبارتهايد يمارس التمييز المؤسسي عبر أربع ركائز؛ التقسيم الجغرافي، ونزع الملكية، والعزل، والحرمان الاقتصادي، كما وثقت منظمة العفو الدولية.
المجتمع الدولي يتحول اليوم من ضامن للحقوق إلى شاهد صامت على الإبادة وشريك في الجريمة، فالأمم المتحدة رغم إدانتها الاحتلال غير القانوني في رأي تاريخي لمحكمة العدل الدولية، تقف عاجزة عن تطبيق قراراتها، وتتحول الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، إلى شريك فعلي في الجريمة عبر الدعم السياسي والعسكري المطلق، فإدارة ترامب لا تكتفي بمنح “الضوء الأخضر” للجرائم، بل تعمل كل ما يمكن ان يسهم في مساعدة اسرائيل لتنفيذ مخططاتها، بما في ذلك الصمت الواضح على ما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم يمكن تصنيفها تحت بند التطهير العرقي، وباستثناء الموقف الاردني المشرف فحتى الدول العربية والاسلامية لم تحقق نجاحا كبيرا في اختبار التضامن بشكل جمعي، حيث يصف المحللون موقفها بـ “التبلد غير المبرر”، في المقابل، تبرز بعض الدول الاوروبية التي اعترف بعضها بالدولة الفلسطينية وندد العديد منها بما ترتكبه اسرائيل من جرائم في غزة وكذلك دول أمريكا اللاتينية كنموذج للضمير الحي؛ حيث قطعت بوليفيا وفنزويلا وكوبا العلاقات مع إسرائيل ووصفت جرائمها بـ “الإبادة الجماعية”، بينما اعترفت البرازيل والأرجنتين بفلسطين ضمن حدود 1967.
سيكتب التاريخ فصل العار موثقا ان ما يحدث في غزة لم يكن مجرد حرب، بل انهيار لمنظومة القيم الإنسانية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، وان القانون الدولي يُداس بالأقدام، ومبادئ حقوق الإنسان تتحول إلى حبر على ورق، والمجتمع الدولي يفضح ازدواجية معاييره.. سيسجل التاريخ أن العالم وقف متفرجاً بينما نفذت إسرائيل جرائمها بأدوات متطورة كالجرافات المدرعة “دي 9” التي تسوي الأحياء بالأرض، وباستخدام “الأبارتهايد الرقمي” لتعزيز سيطرتها، وستتساءل الأجيال القادمة كيف صمت العالم بينما استخدمت نظرية “الصدمة والرعب” – التي اشتهرت بها الأنظمة الفاشية – لترويع شعب أعزل.
بعد كل هذه الجرائم الم يإن الاوان لدق ناقوس الخطر لتنبيه الانسانية جمعاء بأن إبادة غزة ليست مجرد مأساة فلسطينية، بل هي جرس إنذار للبشرية جمعاء، وان الصمت على انتهاك القوانين الدولية اليوم يمهد لانهيارها غداً، والتطبيع مع جرائم الحرب يفتح الباب لحروب إبادة جديدة؟! فعندما تتحول الدول القوية إلى داعمة للقتل الجماعي، وتتحول المؤسسات الدولية إلى ديكور سياسي، تصبح الإنسانية بلا درع يحميها.
باختصار غزة تكشف أن الحضارة الإنسانية قشرة رقيقة تخفي تحتها همجية مروعة، وإن استمر هذا الصمت المريب، فسيكون تاريخ القرن الحادي والعشرين سجلا أسود في تاريخ البشرية لم يسبق له مثيل خاصة وان الضحايا هذه المرة تحت أنقاض البيوت المدمرة وأكوام الجرحى والجياع لا تحصى..غزة اليوم تباد وتحترق، وغداً ستحترق القيم التي بنيت عليها قيمنا وإنسانيتنا.