عروبة الإخباري –
لا شك بأن المقال التاريخي الثري الذي كتبته الأستاذة، رُلى سماعين، بعنوان «من يافا إلى عمّان: رحلة 1926 التي أرست دعائم الأخوّة الأرثوذكسية»، في النشرة التي ترأس تحريرها ولجنتها، للنادي الأرثوذكسي، يزداد إعجاب القارئ كلما تأمّل قدرة الكاتبة على إحياء تفاصيلٍ كادت تضيع في متاهة الزمن.
فالكاتبة رُلى سماعين ليست مجرّد باحثة توثّق أحداثًا؛ هي رحّالة في طبقات الذاكرة الأردنية، تمشط الأرشيفات ودفاتر الرسائل القديمة كما تمشط الأرض بحثًا عن أطلالٍ تروي حكاياتها بلسان الحجر والخط، من مخطوطات الأديرة ومراسلات الصحف الفلسطينية المبكرة، إلى نقوش مادبا وفسيفساءها البيزنطية، تشدّنا سماعين إلى مشاهد تشكّل الوعي الجمعي ولا تزال تغذّيه.
شغفها بتاريخ الأردن لا يقتصر على العصور المتأخرة؛ فهو يمتدّ إلى كلّ حضاراته المتعاقبة، من الأنباط في البترا إلى الأمويين في الصحراء، مرورًا بممالك المؤابيين على تخوم الكرك، ولأنها تدرك أن التاريخ لا يعيش في متاحف الجامعات فحسب، فإنها تزرع نصوصها بذرات دافئة من الحِسّ الإنساني؛ فتدفع القارئ إلى تلمّس أنفاس الرهبان في أديرة البحر الميت، وهمسات التجّار في أسواق يافا، وإلى تذوّق الملح والعرق في حكايات العمّانيين الأوائل. هكذا يتحوّل الماضي في قلمها إلى صُحبةٍ حيّة تعبر الجغرافيا وتمخر عباب السنين لتصنع حاضرًا أكثر التصاقًا بالهوية.
وعندما تربط سماعين بين رحلة نادي يافا الأرثوذكسي عام 1926 والمهرجان الرياضي في عمّان عام 2025، فهي لا تستحضر وقائع متباعدة بقدر ما تنسج خيطًا ممتدًّا من الإخاء، يذكّرنا بأن المؤسسات الوطنية ــ من أنديةٍ وكنائس ومعاهد ــ ليست مباني من حجر، بل أرواح تتبادل الأدوار جيلاً بعد جيل. إن منفذها إلى التاريخ هو «الإنسان»؛ لذلك تبدو مقالاتها وكأنها لقاء بين الجدّ والحفيد على طاولة واحدة، يتبادلان الخبرة والشغف في لهجةٍ واحدة، عربيةٍ أصيلة، توحّد فلسطين بالأردن تحت سقف الثقافة والانتماء.
كل التقدير للأستاذة رُلى سماعين، لا ينبع من دقّتها الأكاديمية وحدها، بل من بصمتها الوجدانية التي تجعل القارئ يلمس نبض الحضارة في كل فقرة، ويشمّ رائحة الأرض في كل سطر، لإنها تكتب ليحيا المكان، وليظلّ التاريخ سندًا يقيم عليه الأردنيون وفلسطينيون معًا جسور الأخوّة التي لا تتهدّم.