تتيح بلاد الاغتراب والمهجر للأردنيين الاطّلاع على تجارب إدارية لنظرائهم من «بلاد العرب أوطاني». دون ذكر اسم هذا القطر الشقيق أو ذاك، لفت انتباهي حرص دول عربية من أقرب المقرّبين إلى الأردن قيادة وشعبا، حرصها على إدامة التواصل الفعّال بينها وبين رعاياها في الخارج.
حتى آخذ راحتي بالحديث التفصيلي، يعمل الجهاز الإداري المركزي في ذلك البلد الشقيق على التعامل مع كل من شغل موقعا -مهما كان أم بسيطا- في الجهاز الإداري وكأنه في إجازة سنوية لا يتم منحها إلا بعد الحصول على التنسيب أو التوصية الإدارية والقرار الأمني. فمجرد مغادرة ذلك الموظف الوزارة أو «المصلحة» التي يعمل فيها لا تتم إلا بالموافقة المشروطة الموقوتة، ولو كان «آذنا» في مدرسة نائية، وله ولمن خدم في أي موقع خالص المودة ووافر الاحترام. أقول مشروطة موقوتة، لأن ذلك الموظف عليه أن يراجع الجهة التي أذنت له بالمغادرة للحصول على تجديد الإجازة بلا راتب لكنها أحيانا محسوبة العلاوات المستحقة زمنيا، وهو قرار ليس أمنيا أو سياسيا وحسب، بل وظيفيا ماليا اجتماعيا وأسريّا. الأمر كله مربوط بسلسلة من الحقوق أو المنح والإكراميات التي يحظى بها الموظف «المرضي عنه» بما فيها من الناحية العملية التقاعد له ولمن يعول، ولورثته من بعده.
من البديهي أن تثير هذه التريتبات أو «المعايير والضوابط» حفيظة المتشدقين المتقعرين المتنطعين في التنظير لحقوق العاملين والمغتربين والمهاجرين. للأمانة، في قولهم الكثير من المنطق والحق، لكن من المنظور عينه، لا يعقل ذلك العقوق وتلك الخيانة والعمالة التي «يتبرطع» فيها بعض المسيئين عن بُعد، الذين تحل عليهم وفيهم ما استجلبوه لأنفسهم من لعنات! من غير المنصف أن يستقوي أي مواطن وخاصة الموظف على بلده وولي نعمته بالغريب أيا كان، حتى وإن كان وطنه الثاني أو بلده الجديد، بفضل ما منحه له البلدان من نعمة وفضل التمتّع بمزايا وعطايا جنسيتين.. كثيرون للأسف يتناسون أن الأمر يبقى في معادلة الحقوق والواجبات وأن أي تضارب فيما يخص الانتماء والولاء لا يكون إلا بإنهاء الازدواجية، طوعا، كَرْها، أو قسرا..
تصادف أن هذا البلد الشقيق من الدول العربية التي تسمح لرعاياها بالاقتراع في الانتخابات عبر السفارات. وهنا مرة أخرى، ثمة معايير وضوابط وآليات للتحقّق من أن من يمارس هذا الحق يصونه، ولا يصير أداة وألعوبة بأيادٍ آثمة تعبث بوحدة البلاد والأمة، باسم شعارات وأجندات عابرة للحدود قُطرية كانت أم «مُعَوْلَمة»! لا فرق هنا بين عولمة اليسار أو اليمين ولا بين قومية تمس بخصوصية الدولة الوطنية. كلهم غرباء، بعضهم أعداء، ولا سبيل أبدا لكفّ أو ردّ شرورهم سوى توفير وتفعيل آليات للضبط والربط، كما يقال.
قبل أيام شهدت حدثين على بعد سبعة آلاف ميل بحري. الأول في «ناشينال هاربر» في ولاية ميريلاند قرب العاصمة واشنطن دي سي، وهو مؤتمر المحافظين في أمريكا المعروف اختصارا ب «سي باك» الذي افتتح مؤتمره الأول عام 1974 الرئيس الراحل «الأيقوني» الجمهوري رونالد ريغان، والثاني هو في ستاد رياضي في بيروت، شهد جنازة أمينين عامين سابقين لمليشيا حزب الله التابعة لإيران في لبنان. لا أقصر حديثي على أي جنسية كانت من المشاركين. لكن من المعلوم، أن عددا من المدعوين في الحدثين كانوا من غير الأمريكيين ومن غير اللبنانيين. بلا تردد ودون تحفظ أعارض الحدث الثاني شكلا ومضمونا، فيما تمنيت لو كانت مشاركة أردنية سنوية -غير رسمية أو شبه رسمية- في الحدث الأول، تماما كما هي مشاركة أقرب الأصدقاء الأوروبيين للأردن، كقادة حزبيين ومسؤولين من الأحزاب اليمينية والمحافظة في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وهنغاريا (المجر) ورومانيا وبولندا وسلوفاكيا (التي كانت شطرا من جمهورية تشيكوسلوفاكيا إبان الحرب الباردة) وسلوفينيا التي كانت جزء من جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي أو يوغسلافيا جوزيف تيتو أحد مؤسسي حركة عدم الانحياز التي حاولت البقاء مستقلة عن نفوذ قطبي الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب بقيادة الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو من جهة، وأمريكا وحلف الناتو من جهة أخرى.
الحضور الأردني في الخارج رياضيا كان أم ثقافيا أم سياسيا، حميد مفيد، ما دام جزءًا لا يتجزّأ من الجهد والأداء الوطني العام للمملكة، كما يراه الملك عبدالله الثاني، ويحدده من خلال حكومة جلالته، ويأمر به سيدنا كقائد أعلى للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية. حينها وحينها فقط، يكون الحضور الأردني حميدا مفيدا..