الخطوة التي أعلن عنها بإعادة العلاقات الدبلوماسية ما بين الرياض وطهران لها دلالات عديدة، من حيث الزمان والمكان.
في مقال لي نشرته بوابة الهدف، بعنوان الحرب الأوكرانية إلى أين هزيمة أم انتصار؟ أشَرتُ فيه إلى التالي (الحرب الأوكرانية أعطت هامشًا للدول الإقليمية بأن تتحرر نسبيًا من الهيمنة الأمريكية الغربية وشجعتها على أخذ قرارات سياسية واقتصادية مستقلة وشعرت بأهمية دورها وأنها من الممكن أن تنتهج سياسة مستقلة، في إطار التحالف والصراع؛ خاصة عندما ظهر لها أن الغرب يستخدم المؤسسات المالية والاقتصادية كسلاح للعقاب للدول، التي تخرج عن هيمنتها وأن القوانين الاقتصادية العالمية، وخاصة المالية (الأرصدة المالية)، من الممكن أن تُصادرها أو تجمدها المؤسسات المالية الغربية، تحت أية ذرائع ولا يهمها كبر الدولة أو قوتها، والودائع الروسية آخر مثال على ذلك). هذه النقلة الجريئة في العلاقة ستفتح الباب إلى تغييرات عميقة في المنطقة، سوف يعزز دور الرياض الإقليمي والدولي.
الخطوة من حيث الزمان؛ جاءت في الفصل الأخير من الحرب الأوكرانية، وفي أجواء دولية ومحلية شديدة الحساسية، حيث كان لمكان توقيع الاتفاقية أثر عميق؛ يؤشر إلى أن الرياض خطت خطوة جريئة ومستقلة؛ لإعادة تموضعها السياسي والاقتصادي في خريطة العلاقات الدولية، يعكس رؤية جديدة تخرج عن سياقها التاريخي. وقد سبق هذه الخطوة السياسية خطوة اقتصادية؛ أعلنت فيها الرياض، أنها ستتعامل مع الصين بالعملات الوطنية في إطار التبادل التجاري المستقبلي.
وإذا ما استكملت الرياض خطواتها باتجاه وقف الحرب في اليمن ودعوة سوريا إلى القمة العربية القادمة في الرياض ودعم اللقاء الرباعي الروسي الإيراني السوري التركي، لمساعدة سوريا؛ لاستعادة سيادتها على أراضيها ودعم التوجهات الوطنية اللبنانية؛ لإعادة انتخاب رئيسًا لبنانيًا يستطيع أن يحمل استحقاقات المرحلة الجديدة. كل هذه الخطوات ستمهد الطريق لإعادة بناء العلاقات العربية على أسس التضامن العربي والإقليمي وستفتح الأبواب مشرعة للتنمية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سيكون للرياض دورًا رائدًا فيها.
إن الوساطة الصينية كانت تتويجًا للحوارات التي قادتها بغداد وعمان، ولكن توقيعها في بكين أرادت فيه الرياض توجيه رسالة إلى كل العواصم: أن هناك مرحلة جديدة للدور السعودي في المنطقة والعالم.
رد الفعل الأمريكي الباهت الذي ربط نجاح الاتفاق بمدى التزام إيران به ورد الفعل الإسرائيلي الغاضب، الذي عبر عنه رئيس وزرائها الأسبق أن كل ما تم بناءه من جبهة ضد إيران دمرته الاتفاقية؛ يعبر عن مدى أهمية الخطوة السعودية الإيرانية، فهي بمثابة إعلان ضربة تحت الزنار لجهود نتنياهو حول أولوية الخطر الإيراني؛ خاصة وأن نتنياهو الذي يزور روما سعيًا؛ للضغط على الحكومة الإيطالية للتراجع عن الاتفاقات التي وقعتها مع الجزائر.
الاتفاق سيشكل دعمًا غير مباشر للمقاومة الفلسطينية، التي تسعى لصد الهجمات الإجرامية اليومية لجيش الاحتلال الإحلالي ومستوطنيه، من خلال تحييد الخطر الشيعي لصالح أولوية الخطر الإسرائيلي.
إن نجاح الخطوة الصينية، سيشكل دافعًا لكي تنجح المساعي الروسية؛ لإعادة العلاقة التركية السورية، التي ستفتح الباب لمحاصرة التوجهات الأمريكية الإسرائيلية، لتقسيم سورية وتعزيز مصلحة الأمن القومي التركي، التي تتطلب دعم وحدة أراضي سورية وتعزيز دور الدولة السورية وغلق الأبواب أمام انفصال الشمال الشرقي السوري، لقيام دولة كردية؛ تهدد وحدة الأراضي التركية.
نجاح هاتان الخطوتان، سيكون لهما تداعيات على المشهد الدولي؛ لإعادة التوازن للعلاقات الدولية ومدخلًا لِتغيير الأسس القائمة على الرؤية الأحادية التسلطية التي تشرع عدوانيتها وتجرم الحقوق المشروعة للدول والشعوب.
تصريح الرئيس بايدن أن العلاقة مع إسرائيل هي الأفضل لدول المنطقة، في تعليقه على إعلان عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران؛ يدلل على أن معيار موقف واشنطن من دول المنطقة ليس أهمية امكانياتها ودورها، ولكن مدى خدمتها لدولة الكيان الصهيوني. هذا التصريح يؤشر على أن الاتفاق سيلاقي عملًا دؤوبًا لتخريبه، لهذا هناك أهمية قصوى لجهود ومبادرات إيرانية لإنجاحه؛ خاصة في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وضرورة إشراك الرياض، في تبديد التحريض ضده، عبر دعوتها المباشرة للإطلاع على سلميته ومدى ضرورته ليس لإيران، بل لجهود التنمية الإقليمية وضرورة العمل الجدي للوساطة لإنهاء الحرب على اليمن على قاعدة وحدة الأراضي اليمنية.
إن هناك ضرورة لوضع إطار سياسي وأمني؛ للحفاظ على الأمن الإقليمي، يكون لكل من السعودية وإيران؛ دورًا رئيسيًا في الحفاظ على سيادة ودول ومياه الخليج، بما فيها إيران. وهنا فإن النشاط السياسي الإقليمي والدولي لكل من بكين وموسكو، يعزز الرؤية المشتركة لإعادة تموضع العلاقات الدولية على أسس التعددية القطبية وسيادة الدول وحرية خيارات شعوبها؛ بعيدًا عن التدخل بشؤونها الداخلية وفرض ثقافات بعيدة عن رغبات شعوبها وتطلعاتها.
النشاط الثنائي سيشكل مدخلًا لإعادة الالتزام بالقانون الدولي في إطار العلاقات الدولية ومحاصرة التوجهات الأحادية ورفضا لسياسة العقوبات من خارج القانون الدولي ومؤسساته.
من الواضح أننا نشهد ولادة عالم جديد، سيكون كلمة فيه للدول الإقليمية الصاعدة، وبالتأكيد سيكون أكثر عدلًا من عالم القطب الواحد، الذي ناظِمَهُ الموقف من الفكرة الصهيونية المتجسدة في دولة إسرائيل الإحلالية ومعياره مدى السعي لتطبيع العلاقة معها.