في مرحلة تشهد فيها المملكة العربيّة السعوديّة تحولات عميقة على الصعيد الداخلي، قام الأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي بجولة شملت مصر والأردن وتركيا. تكمن أهمّية الجولة في أنّها تأتي قبل ثلاثة أسابيع من مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المملكة لعقد محادثات مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز ووليّ العهد.
تبدو الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الأميركي الذي سيأتي إلى السعوديّة مباشرة من إسرائيل، تاريخية بكلّ المقاييس.
ربّما، بين أفضل من وضع الزيارة في سياقها التاريخي دراسة طويلة، نسبيا، صدرت عن “مجلس العلاقات الخارجيّة” الأميركي الذي يعتبر من أهمّ مراكز الدراسات والبحوث في الولايات المتحدة. تحدثت الدراسة، وهي بتوقيع ستيفن كوكومارتن إنديك عن أهمّية الزيارة وعن ضرورة التوصل إلى اتفاق جديد ذي طابع استراتيجي بين المملكة والولايات المتحدة في ضوء الظروف المختلفة التي تمرّ فيها المنطقة، خصوصا بعد حرب أوكرانيا التي كشفت حاجة العالم إلى مصادر الطاقة… على رأسها النفط السعودي.
ارتدت الجولة التي قام بها الأمير محمّد بن سلمان أبعادا واضحة نظرا إلى أنّها كشفت القدرة على إيجاد تفاهمات في العمق بين السعوديّة وكلّ من مصر والأردن وتركيا. فعلى الرغم من أنّه لا بدّ من التمييز بين مصر والأردن من جهة وتركيا وشخص رجب طيب أردوغان بالذات من جهة أخرى، يبقى واضحا أنّ ثمة بداية لتحول تركي في الاتجاه الصحيح فرضته الأزمة الاقتصاديّة التي يعاني منها البلد. لا شكّ أن ثمّة حاجة إلى التعاطي مع هذا التحوّل بحذر في ظلّ ما يربط أردوغان نفسه بفكر الإخوان المسلمين بكلّ ما يمثله من تخلّف وعداء لكلّ توجه حداثي في المنطقة.
المهمّ أنّ جولة وليّ العهد السعودي أوجدت أساسا لتفاهم في شأن التوجهات العامة مع ثلاث دول أساسيّة في المنطقة. سيضيف ذلك ثقلا إلى الموقف السعودي في المحادثات مع بايدن وفريقه. لكن ما لا يمكن تجاهله في المقابل وجود اختراقات إيرانيّة في المنطقة لا مفرّ من التعاطي معها، أكان ذلك في العراق أو في سوريا ولبنان… أو في اليمن. إذا كانت العلاقات الجيدة مع مصر من نوع تحصيل الحاصل، كان ضروريا إعادة الربط مع الأردن بعد مرحلة شهدت العلاقات بين الرياض وعمّان بعض الفتور المرتبط بنوع من الحساسيات الشخصية التي لم تكن هناك من ضرورة لها.
يشغل الوضع اليمني المملكة العربيّة السعودية، خصوصا في غياب الاستيعاب الأميركي لما هو على المحكّ في هذا البلد الذي هو جزء لا يتجزّأ من شبه الجزيرة العربيّة. أظهرت جولة الأمير محمد بن سلمان أنّ ثمة حاجة إلى معالجة وضع شاذ ساهمت الإدارة الأميركيّة الحالية في زيادته شذوذا. أخذت إدارة بايدن، منذ اليوم الأوّل لدخوله البيت الأبيض مطلع العام 2021، موقفا غريبا تمثل في رفع الحوثيين (جماعة أنصار الله) عن قائمة الإرهاب. شجع ذلك إيران التي تتحكّم بالحوثيين على مزيد من العدوانية تجاه دول الخليج العربي، في مقدّمها السعوديّة.
قامت السعوديّة عبر وليّ العهد بما عليها القيام به، خصوصا لجهة التنسيق مع قوى إقليمية فاعلة مثل مصر والأردن وتركيا. يمكن، حتّى، للعلاقات بينها وبين إسرائيل أن تتطور في حال جاء الرئيس الأميركي إلى المملكة بمبادرة إسرائيلية تؤكّد النيّة في تقديم عرض ملموس ذي مضمون حقيقي للفلسطينيين.
لكن، ماذا عن الجانب الأميركي الذي لم تقتصر الأخطاء التي ارتكبها على اليمن، بل يمكن القول إنّ هذه الأخطاء لا تحصى، خصوصا لدى التطرّق إلى حال اللاتوازن في المنطقة كلّها. هذه الحال ناجمة عن تسليم العراق على صحن من فضّة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في العام 2003. من فعل ذلك هو إدارة بوش الابن ومن استكمل عملية التسليم كان إدارة باراك أوباما التي عقدت صفقة، في شأن العراق، مع إيران في العام 2011.
يمكن الحديث طويلا عن الأخطاء الأميركية في المنطقة وهي أخطاء لم ترتكبها الإدارة الحالية وحدها. من بين هذه الأخطاء الطريقة التي نُفذ بها الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان قبل أحد عشر شهرا. أعطى هذا الانسحاب انطباعا بأن أميركا لم تعد مهتمة بالمنطقة وباتت تتحدّث عن أولويات جديدة في مقدّمها مواجهة الصين. لم تسأل الإدارة نفسها سؤالا في غاية البساطة: كيف يمكن مواجهة الصين والسعي في الوقت ذاته لاسترضاء إيران التي لم تتردّد في وضع نفسها في تصرّف الصين؟
سيتوقف الكثير في المنطقة على نتائج زيارة جو بايدن إلى المملكة العربيّة السعوديّة ومحادثاته مع الملك سلمان والأمير محمّد بن سلمان. يبدو جليّا أنّه جرى الإعداد للزيارة بشكل جدّي. لا يقتصر الإعداد الجدّي للزيارة على الجانب الأميركي. تبدو السعودية هيّأت نفسها جيّدا لاستقبال الرئيس الأميركي في عالم غيرته حرب أوكرانيا كلّيا، خصوصا بعدما باتت كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها مهدّدة. إنّه شعور طبيعي في ضوء المغامرة التي أقدم عليها فلاديمير بوتين الذي تسبب بحرب داخلية أوروبيّة هي الأولى منذ انتهت حروب تقسيم يوغوسلافيا منتصف العام 1995.
يأتي الرئيس الأميركي إلى المملكة العربيّة السعوديّة بحثا عن معادلة جديدة تختلف عن تلك التي توصّل إليها الملك عبدالعزيز والرئيس فرانكلين روزفلت عندما التقيا على ظهر البارجة “كوينسي” في منطقة البحيرات المرّة في قناة السويس في شباط – فبراير 1945.
يأتي جو بايدن في وقت يبدو العالم أكثر تعقيدا، كذلك منطقة الخليج والشرق الأوسط كلّه. إذا كانت تجارب الأشهر القليلة الماضية كشفت شيئا، فهي كشفت أن ليس في استطاعة الرئيس الأميركي التعاطي بخفة وفوقيّة مع حليف قديم مثل المملكة العربيّة السعودية ولا مع حلفاء آخرين يدركون كيف يعمل العالم وطبيعة التوازنات فيه… يدركون خصوصا أنّ لديهم أيضا وسائل ضغط على الإدارة الأميركية ويمتلكون القدرة على إيجاد تفاهمات في ما بينهم متى دعت الحاجة إلى ذلك. لا يدل على ذلك أكثر من الجولة الأخيرة للأمير محمد بن سلمان…