عروبة الإخباري – نظّمت جمعية النقاد الأردنيين، بالتعاون مع جامعة فيلادلفيا والمكتبة الوطنية مساء الاثنين 3/10/2021 لقاءها الخامس ضمن سلسلة لقاءاتها المتخصصة لرصد المنجز الأدبي والثقافي الأردني في ظلال مئوية الدولة.
وجاءت المحاضرة الخامسة التي ألقاها الدكتور محمد عبيد الله، لرصد أبرز معالم القصة القصيرة الأردنية في مائة عام. وقدمت المحاضر وأدارت اللقاء د.امتنان الصمادي أستاذة الأدب والنقد بالجامعة الأردنية. التي بيّنت أهمية رصد المنجز الإبداعي وتسجيله وتعريف الأجيال الجديدة به، ذلك أن الإبداع يعتمد على التراكم ونقل الخبرات بين الأجيال.
وقد أوضح عبيد الله أن تطور القصة الأردنية ارتبط بعوامل متشعبة تتصل كثير منها بتطور المجتمع الأردني في مختلف المجالات، ومن العوامل المؤثرة بشكل واضح في الإبداع الأدبي والقصصي: اتساع التعليم، وظهور الصحف والمجلات وكثرة المطابع ومواكبتها للتطور، وظهور دور النشر الرسمية والأهلية ونشاط المؤسسات الثقافية والروابط والجمعيات الثقافية، إلى جانب عوامل فكرية وسياسية، تتصل بإدراك دور الأدب القصصي وصلته بالواقع.
وعرض المحاضر لبدايات القصة الأردنية ومرحلة الريادة في النصف الأول من القرن العشرين، فتحدث عن مجموعة أغاني الليل لمحمد صبحي أبو غنيمة (1902-1970) بوصفها أول مجموعة قصصية تصدر لكاتب أردني عام 1922م. وأما محمود سيف الدين الإيراني (1912-1974) فهو الرائد الفني وصاحب التأثير الأعمق من بين رواد القصة القصيرة، وقد جمع في تكوينه الثقافي بين الثقافة العربية الكلاسيكية والثقافة الأوروبية المعاصرة، وكل ذلك يفسر لنا التداخل الذي لا تخطئه القراءة بين تأثيرات العربية الكلاسيكية، ومحاولته كتابة قصة معاصرة بلغة حديثة. وعرض د.عبيد الله لتجارب الرواد الآخرين، مثل: عيسى الناعوري، أمين فارس ملحس، وروكس بن زائد العزيزي وحسني فريز وغيرهم.
أما قصاصو مجلة “الأفق الجديد” في ستينيات القرن الماضي فهم طلائع التجديد والتجريب، بحسب د.عبيد الله، وهم الجيل الذي نقل القصة من مرحلة البدايات والتأسيس إلى التطور والإتقان والتجويد. وقد احتضنت الأفق الجديد مجموعة بارزة من القصاصين الذين فتعلّموا في مدرستها ونشروا أعمالهم المبكرة على صفحاتها، وهي أعمال تميل إلى المدرسة الواقعية الصاعدة منذ بداية الستينات. وقد تميز عدد من هؤلاء بالميل إلى التجديد والتجريب وتطوير الكتابة الواقعية عبر وسائل وأساليب متنوعة. ومن أبرز أبناء الأفق الجديد: محمود شقير، وخليل السواحري، وفخري قعوار، وماجد أبو شرار، وصبحي شحروري وغيرهم من أبناء الضّفتين قبل نكسة حزيران 1967م.
ولم يتوقف الأمر على قصاصي الأفق الجديد بل هناك مجموعة من التجارب الموازية واللاحقة لجيل الأفق الجديد ممن أسهموا في مسار التجديد، ضمن تناول الواقع وتمثيله، وكان الهمّ الفلسطيني وكتابة القصة المقاوِمة من أبرز ما حرص عليه هؤلاء القصاصون، إلى جانب ظهور تأثيرات للتوجهات العالمية في القصة وبوجه خاص القصة الوجودية والنفسية، وأحيانا تندمج هذه التأثيرات وتتكيف للتعبير عن الواقع العربي، من أبرز هؤلاء: رشاد أبو شاور، وبدر عبد الحق، وصالح أبو أصبع، وأحمد عودة، وفايز محمود، ومحمود الريماوي، وجمال أبو حمدان، وعلي حسين خلف، وغيرهم.
وفي النصف الثاني من السبعينات، ظهرت أسماء جديدة قادوا مسيرة القصة في العقود الآتية، وأفادوا من التجارب السابقة كما أفادوا من الشوط الفني الذي عبرته القصة القصيرة العربية، ولذلك يمثل عقد الثمانينات انتقالة واسعة بالكتابة القصصية إلى مراحل جديدة من اتساع التجريب وشيوع مفاهيم الحداثة القصصية، والتركيز على الكتابة القصصية وعلى القصة القصيرة من الناحية الفنية والجمالية شبه الخالصة. وأهم ممثلي هذه الحقبة: إلياس فركوح، هاشم غرايبة، عدي مدانات، يوسف ضمرة، خليل قنديل، رسمي أبو علي، سعود قبيلات، محمد طمليه، قاسم توفيق، أمين يوسف عودة، وغيرهم.
كما تميزت الثمانينات بوضوح مساهمة الكاتبة الأردنية في الكتابة القصصية، فقد أتاحت مرحلة الثمانينيات فرصا جديدة أمام أطياف اجتماعية وثقافية كثيرة أن تظهر وتعلن عن نفسها، ومع هذه الأطياف عبرت المرأة الجديدة إلى مناخ التعليم والثقافة والكتابة. ولعل للأمر صلة بتطور المجتمع العربي وتوسع اتجاهه إلى التعليم وانتشار وسائل الإعلام وجملة التغيرات التي لحقت بالنظام الأسري، وشحوب الأسرة الأبوية لتتحول نسبيا إلى أسرة مشتركة أو أمومية في أحيان كثيرة، فكل ذلك انعكس على حركة القصة القصيرة في صورة ظهور عدة أصوات نسوية لم تعد مقصورة على طبقة دون أخرى. ومن الأصوات النسوية في هذه المرحلة: هند أبو الشعر- رجاء أبو غزالة- زليخة أبو ريشة- سامية عطعوط- ليلى الأطرش-سهير سلطي التل- تيريز حداد- وبعد منتصف الثمانينيات ظهرت مجموعات: منيرة قهوجي-زهيرة زقطان-عائشة الرازم-منيرة شريح-سحر ملص-رغدة الشرباتي-نوال عباسي-إنصاف قلعجي وغيرهن.
وتحدث د.عبيد الله عن مرحلة التسعينات من القرن الماضي بوصفها عقد التدفق القصصي في الأردن من ناحية كمية، أي بالانتباه إلى عدد القصاصين الجدد الذين نشروا أعمالهم بين عامي (1991-2000)، ويمكننا رصد ما يزيد على مائة مجموعة كتبها قرابة خمسين قاصا وقاصة ممن لم يسبق لهم أن نشروا من قبل. ولا شك أن عوامل مختلفة قد طرأت وأسهمت صراحة وضمنا في تفجير هذا الطوفان القصصي، ومنها عوامل متصلة بالتوسع في التعليم نوعا وكمّا بمختلف مراحله، وانتشرت وسائل الثقافة، وتعددت المؤسسات المعنية بها والداعمة لحركة النشر. ونضيف إلى ذلك أن معظم الصحف الأردنية خصصت ملاحق ثقافية احتفت بنشر الإنتاج القصصي، إلى جانب دور المجلات الثقافية.
ومما يبرز في القصة الجديدة نزوعها نحو الحياة الهامشية بتفاصيلها الصغيرة، نتيجة لتغير في الرؤية، وهو تغير نوعي أدّى إلى تبدّل موضوعات السرد وإعادة الاهتمام بجوّانية الأشياء وظلالها، فصارت الظلال والهوامش هي المدخل إلى الجوهر، وصارت المواربة وتجنّب الصراحة ضرباً أساسياً في القول القصصي الجديد.
ويتبع الفرار من الموضوعات الكبرى، نزوع إلى مغادرة الرؤية الوصفية الخارجية، لصالح الرؤية الداخلية، فتتناقص مساحة الوسط أو المحيط، وتتسع المساحة الداخلية، بحيث تكشف القصة عن أعماق الشخصية ونبضها وحركتها الانفعالية، دون أن يكون هناك كبير عناية بالعالم الخارجي إلا من حيث كونه مثيراً لانفعالات الشخصية وحركتها الداخلية، ويتبع ذلك كثرة الاعتماد على الراوي المتكلم الذي يروي قصته بنفسه، أو استخدام تقنيات أخرى تؤدي الوظيفة نفسها. إن التحوّل إلى الرؤية الداخلية يؤدي أيضاً إلى تحوّل آخر على مستوى اللغة القصصية التي تتخلص من حمولتها الوصفية، ومن أبعادها الإخبارية، لتميل إلى لغة وجدانية تأخذ من الشعر طريقته التعبيرية والتأثيرية.
ومع بداية التسعينات اتسعت ظاهرة القصة النسوية في الأردن ، من خلال مساهمات عدد كبير من الكاتبات اللواتي ظهرن لأول مرة ، ويمكن القول بأن عقد التسعينات هو الفترة الذهبية لكتابة المرأة في الأردن ، وخصوصا في مجال القصة القصيرة الذي تركزت فيه معظم الكتابات النسوية. ولا شك أن هذا الظهور المتأخر زمنا مرتبط بالمجتمع الأردني نفسه، وبموقع المرأة فيه ، هذه المرأة التي لم تخرج للعلم أو للعمل إلا في عقد الثمانينات وبصورة أوسع في عقد التسعينات ، ويرتبط هذا الخروج بالتغير الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ثم هناك الحاجات الاقتصادية للأسرة التي لم يعد الرجل وحده قادرا على تلبيتها ، فصار بمقدور المرأة أن تساهم، ثم تحول الوعي الاجتماعي تدريجيا تبعا للحاجات الاقتصادية ونجاح المرأة في المهمات الجديدة التي أنيطت بها.
وابتداء من منتصف التسعينات استعان الكتاب الجدد والقدامى بالتقنيات الاتصالية الجديدة وشبكة الإنترنت لنشر أعمالهم والإعلان عنها، بل ظهرت أصوات قصصية ليس لها حضور في المطبوعات الورقية بينما لها حضور يومي على شبكة الإنترنت، ولكنها البداية فقط وقد يظهر من بينها الجيل القادم من كتاب القصة القصيرة، أما الراهن فليس لصالح المادة الإلكترونية على كثرتها وتعدد كتابها.
وختم المحاضر حديثه حول المرحلة الراهنة (الألفية الثانية) ورأى أنها مرحلة التفلت من حدود النوع ومن أنظمة التجنيس، وإذا كان التفلّت الأجناسي مظهرا تجريبيا فيما مضى، فقد تم المضي في التجريب إلى مناطق جديدة متقدمة تكاد تخرج على حدود النوع وإمكاناته التجريبية، ويبدو أن الكتاب أنفسهم قد أدركوا شيئا من هذا، فصرنا نقرأ على الأغلفة صورا تفعّل هذا القلق الأجناسي.
أما من الناحية الفنية التجريبية فتبدو القصة في هذه المرحلة استمرارا للحقبة الأخيرة من حقب القصة العربية، تلك الحقبة التي نحدد بداياتها بأوائل التسعينات من القرن الماضي. ولكنها أظهرت قدرا من القلق على حدود النوع وتعريفه واستمراره بشكل أوضح من قبل، ولعل هذا القلق يتمخّض عن أشكال جديدة تسهم في تجديد القصة القصيرة أو تحوّلها بعد أن شهدت قدرا عاليا من النضج والانتشار طوال ما يقرب من مائة سنة.
الدكتور عبيد الله عميد الآداب والفنون في فيلادلفيا يحاضر حول تطوّر القصة الأردنية في ظلال المئوية
9