حين يتأمل المواطن العربي في الخلافات العربية يعجب لتعددها ولتحولها إلى حالة مزمنة ولأسبابها ومبرراتها الواهية. و رغم مرور (70) عاما على إنشاء جامعة الدول العربية (وهي للدول وليست للشعوب) لم تستطع أن تتحول إلى مؤسسة فاعلة قادرة على الإنجاز في الأزمات وحل الخلافات بين الدول بسلاسة وعدل واعتدال ،ناهيك عن تكريس سياسات عربية مشتركة مستقرة. والملفت للنظر أن الخلافات العربية تمتد لسنوات طويلة دون اكتراث أطراف الخلاف بالأضرار الجسيمة التي يلحقونها ببلادهم والبلاد العربية الأخرى.
(22) دولة على مدى أكثر من (50) عاماً لم تنجح في تحقيق تشبيك اقتصادي حقيقي دائم بين أي دولتين أو أكثر، ولم تنجح في أي مشروع استراتيجي مشترك، بما فيها السكة الحديد أو مرافق الطاقة أو مراكز الأبحاث وغيرها. بل وتمعن كل دولة منها بمزيد من الاعتماد على الأجنبي في إقامة وإدارة المشاريع والتداخل الاقتصادي.
كذلك فإن الخلاف بين قطر والدول الخليجية ومصر لا يعقل أن يستمر لهذه السنوات بينما تؤججه الماكنات الإعلامية وتتدفق الاتهامات بالخيانة والعمالة والفساد من كل حدب وصوب.ويتوقف مجلس التعاون الخليجي عن العمل ،وتتحالف هذه الدولة مع أعداء تلك الدولة دون الشعور بخطر هذا النزاع عليها وعلى أشقائها مستقبلاً.وهذا فتح المجال للتغلغل الإسرائيلي الخفي والمعلن في كل تجاه.كل هذا والمواطن العربي يتأمل ما يجري بأسى وإحباط.
وهناك الخلاف بين مصر والسودان حول حلايب وشلاتين بل ومياه النيل، وبين المغرب والجزائر حول الحدود والصحراء المغربية والذي يعود إلى أكثر من (56) عاماً دون القدرة على الاتفاق على حل وسط. وكذلك الخلاف بين العراق وسورية والذي امتد طيلة (30) عاماً فترة حكم حزب البعث في البلدين بكل ما رافق ذلك من قتل وتشريد وأحقاد وتحالف مع الأجنبي وفتح الساحة العربية لكل تدخل.والخلاف الليبي اللبناني الذي يعود إلى العام 1978 بعد اختفاء الإمام موسى الصدر وحتى اليوم ما تزال الحقيقة غائبة رغم انهيار نظام القذافي.
ولم تقتصر الخلافات العربية على الدول وإنما تغلغلت إلى مكوّنات المجتمع الواحد في كثير من البلدان.فالخلاف بين فتح وحماس امتد لأكثر من 12 سنة وتحول إلى قطيعة كبرى ، كانت اسرائيل هي المستفيد والمغذي الأول لها. في حين يدفع الشعب الفلسطيني الثمن من أرضه ومواطنيه ومستفبله. كذلك تأججت نزاعات وصراعات من نوع ما شملت العرب والكرد والأمازيغ،والسنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين، وصراعات بين القوى السياسية في اليمن والعراق ولبنان وليبيا، وصلت إلى مستوى الحروب الأهلية والاستعانة بالأجانب.إن كل نزاع أو كل صراع عربي من أي شكل تستعمله إسرائيل والقوى الأجنبية والاستخبارات الدولية لصالحها. فتمعن في إضعاف الدول العربية والضغط عليها واختراقها الواحدة تلو الأخرى.
ومع هذا فإن الخلافات التي هي بين الزعامات والقيادات والسياسيين وليس بين الشعوب تمتد إلى عشرات السنين دون أن يكون لها حل حاسم ونهائي وقاطع يخرج المنطقة العربية وشعوبها من هذه الأزمة التاريخية القاتلة… لقد أصبح من المعتاد أن يستعين نظام عربي على آخر من خلال التحالفات الأجنبية حتى لو رافقها دخول قوات عسكرية وإقامة قواعد دائمة.وأصبح من المعتاد لكي يحافظ كل فريق سياسي على مصالحه وضد النظام أن يتحالف مع قوة أجنبية ضد وطنه أو يدمر النظام بلاده بالتحالف مع القوى الأجنبية أو يعطل تشكيل الحكومة أو أدائها لأشهر وسنوات. كما هو الحال في اليمن وليبيا والعراق وسورية ولبنان
ما الذي يجعل السياسي العربي أنانيا بل عدميا تدميريا في خلافاته؟ لا يأبه بالوطن أو الشعب سواء كان زعيماً (غير منتخب بطبيعة الحال) أو حزباً أو رئيساً لطائفة أو حتى رجل دين منغمس في السياسة؟ ما الذي يجعل السياسي العربي لا يتردد إزاء تمزيق بلده أو تقسيمها أو استنزاف مواردها؟ مقابل البقاء في السلطة أو عدم التوافق أو حتى التوسط والتنازل للطرف الوطني الآخر؟
ما الذي يجعل الأحزاب في الوطن الواحد غير قادرة على التوافق والعمل المشترك والبرنامج الواحد؟ وإنما مجرد أحزاب متفرقة لا تقوى على التغيير. لماذا يتنازل الزعيم الأجنبي تلقائياً وبدون ضغط شعبي إذا وجد نفسه غير متوافق مع الآخرين (ديغول، كاميرون وغيرهم)؟ لماذا يسلم البريطاني والأميركي والألماني والفرنسي والياباني والسويدي السلطة والقيادة في الدولة أو الحزب لغيره من الناس دون أن يشعر بالخسارة أو “بالإهانة” كما هو الحال عند العرب؟ لماذا لا يلجؤون إلى تزوير الانتخابات وإلى التحايل على إرادة شعوبهم؟ بينما العرب لا يأمن أحد إلى نزاهة الانتخاب إلاّ قليلاً.
هل هو نقص في حب الوطن؟ هل هو مجرد الأنانية والفردية التي لم يستطع التاريخ أن يمحوها وفشل التعليم والثقافة أن يغيرها؟ هل هو كراهية الآخر أيا كان هذا الآخر؟ أم غياب التنظيم المجتمعي الفعاّل؟ أم ضياع التربية في المؤسسة التعليمية والأسرة؟
لا بد من إعادة بناء الشخصية الوطنية العربية باتجاه التسامح وقبول الآخر، باتجاه التمييز بين الطموح والجشع وباتجاه الاعتراف بقدرات الآخرين والرضا والقناعة بالدور المحدود لكل إنسان، وباتجاه الربط بين المنصب وبين خدمة المواطنين بإرادتهم لا رغماً عنهم، باتجاه التمييز بين الحلول الوسط والواقعية من جهة وبين الهزيمة من جهة أخرى. هذه يجب أن تكون مواد إجبارية مقررة على طول المناهج المدرسية والجامعية.
رغم كل العنجهيات والعنتريات والحديث عن الاقتصادات والثروات والفرص بل والأوطان فإن المنطقة العربية بأسرها في حالة هزيمة. هزيمة من الداخل قبل أن تكون من الخارج. ولعل الحراك في لبنان والعراق ومناداته بإنهاء والفساد السياسي والمالي والإداري بداية طريق جديد. فهل يحمل المستقبل صورة مختلفة تثور فيها الجامعة العربية على نفسها؟وتثور المدرسة والمعهد والجامعة على نفسها لتصبح مدرسة قيم وطنية وقومية إنسانية؟ ويخرج الحكام على أنانيتهم ويعتمدون على شعوبهم وليس الأجنبي، ويتصالح الناس على مبدأ المواطنة المتكافئة؟ وتتنقل البلاد العربية إلى الديمقراطية والمشاركة؟ وخلاف ذلك فإن الطريق العربي موصل إلى وادي سحيق.
*وزير التربية والتعليم الأسبق