يصرّ مثقفون وإعلاميون مصريون تابعون للنظام الحاكم في بلدهم منذ العام 2013 على الانتقاص من التجربة الديمقراطية التونسية حيناً، والتعتيم على ما أثمرته من مكتسبات حقوقية حيناً آخر. ويعمد آخرون إلى اعتبار ما تشهده تونس من تطوّراتٍ سياسيّة تقليداً للنموذج المصري على عهد عبدالفتاح السيسي، واستلهاماً منه. في هذا السياق، قال المذيع وائل الأبراشي “إنّ تونس استفادت من مصر، والمجتمع التونسي استفاد من النموذج المصري”. وتمنّى أمثال أحمد موسى ترشّح وزير الدفاع التونسي، عبد الكريم الزبيدي، للتسابق على رئاسة الجمهورية تقليداً للمشير السيسي. وأثنى أحمد البكري على الزبيدي واعتبره منقذ تونس. وغاب عن هؤلاء أنّ الرّجل شخصية مدنية (دكتور في الطب) تُدير المؤسّسة العسكرية، وهو أمر غير معهود في مصر. والمتابع لمسار المرحلة الانتقالية في البلدين بعد الثورة، يتبيّن أنّ المشابهة بينهما هي أقرب إلى الارتجال وتزييف الوعي منها إلى التوصيف الموضوعي للواقع، ذلك أنّ التباين بين تونس ومصر ظاهر في مستويات سياسية وحقوقية وعمرانية شتّى.
ما شهدته مصر من أحداث احتجاجية في 30 يونيو/ حزيران 2013، أدّت إلى انقلاب عسكري على أوّل رئيس مصري منتخب، وأفضت إلى صعود العسكر إلى الحكم (3 يوليو/ تمّوز 2013) كان له أثر ظرفي/ آني في المشهد السّياسي التّونسي الذي عرف وقتها حالة من الانقسام الشّديد إزاء متغيّرات الوضع المصري. فذهب سياسيّون إلى تأييد تغيير النظام بالقوّة في مصر، معتبرين ما حصل تصحيحاً لمسار الثّورة، وإيذاناً بنهاية الإسلاميّين وفشلهم في إدارة المرحلة الانتقاليّة. وغاية قطاع مهم من المعارضة الراديكالية التونسيّة (جبهة الإنقاذ)، في تلك الفترة تهيئة الشّارع للقبول بتحوّل في هرم السّلطة، يكون مصدره ضغط الاحتجاج الشّعبي، وتدخّل المؤسّسة العسكريّة. في المقابل، تفاعلت أطراف سياسية وازنة أخرى بطريقةٍ مخالفةٍ مع مستجدّات المشهد السياسي المصري، فالتقت عند التّنديد بما حصل، واعتبار إطاحة حكم الإسلاميّين عملاً انقلابيّاً كرّس تقسيم المصريّين، وأبرز مطالب جزء منهم على حساب جزء آخر دعم الرّئيس المنتخب، وأدّى إلى إيقاف مسار الانتقال إلى الدّيمقراطيّة.
وعلى الرغم من سعي منابر إعلاميّة، وأحزاب معارضة تونسيّة وقتها، إلى ترويج التجربة المصريّة بعد “3 يوليو”، ومحاولة إجرائها داخل الاجتماع التّونسي، فإنّ تلك المساعي لم تأت أكلها. ويمكن تفسير فشل مشروع استنساخ السّيناريو المصري في تونس بعدّة معطيات مهمة، منها اختلاف المسار الانتقالي بين البلدين، وتباين تموقع الإسلاميّين فيهما، فقد تولّى الإخوان المسلمون في مصر مسؤولية الرّئاسة ومقاليد الحكم فترة قصيرة. ولكن حركة النهضة في تونس بدت ميّالةً إلى الحكم الائتلافي الجامع بين إسلاميّين وعلمانيّين، ولم تستأثر بالرّئاسات الثلاث (الجمهورية، الحكومة، البرلمان). بل تركت الأمر للتداول بين وجوه سياسية مختلفة خلال المرحلة الانتقالية. وبذلك لم يجد قول المعارضة التونسية باستئثار الحزب الحاكم بالسّلطة صدقيّة واسعة لدى الرّأي العام، باعتبار ميل حركة النّهضة إلى البحث عن صيغ تآلف ممكنةٍ مع منافسيها، على الرغم من اختلاف الخلفيّات الأيديولوجيّة بينها وبينهم.
يضاف إلى ذلك أنّ المعارضة الرّاديكالية (اليسارية، وفلول النظام القديم خاصّة) في تونس تبقى، على الرغم من ارتفاع صوتها، أقلّية مشتّتة، لم تشكّل قوّة ضغط شعبي، ولم تنجح في فكّ الارتباط بين الحكومات الائتلافية المتعاقبة ومكوّنات المجتمع المدني (النّقابات العماليّة والحقوقيّة والمحامون والقضاة)، إذ حافظ الحكم التوافقي في تونس على علاقات التّشاور والتّواصل مع المنظّمات المدنيّة، ولم يدخل في مواجهةٍ معها. بل وفّر لها هامشا كبيرا من الاستقلاليّة. وهو ما جعل استتباع المعارضة الاحتجاجيّة وحركة تمرّد التونسية للمنظّمات النقابيّة والحقوقيّة، وإقناعها بضرورة العصيان المدني، وتقويض النّظام القائم بمختلف مؤسّساته (البرلمان، الحكومة، الرّئاسة) أمرا غير ممكن. على خلاف ذلك، قبلت أحزاب علمانية وجمعيات مدنية مصرية مشروع عزل الإسلاميين، ورفضت مدّ اليد إليهم أو التآلف معهم. وأيّدت بدل ذلك حركة تمرّد المصرية، ومشروع الانقلاب على الشرعية، وتغيير الحكم بالقوّة. وغابت عن ذلك الطيف من المعارضة المصرية مقولة: “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”، فبعد سنة 2013 تمدّد الحكم الشمولي، واحتكر المجال العام في مصر، وقضى أو كاد على كلّ نفس ثوري، وكلّ توجّه سياسي معارض، جِدّي بقطع النظر عن انتمائه الأيديولوجي.
ومن المفيد الإشارة إلى أنّ حركة تمرّد وأحزابا معارضة راهنت على إمكانيّة استمالة الجيش التونسي لتغيير النظام بالقوّة، من دون جدوى، ذلك أنّ المؤسّسة العسكريّة في تونس لزمت الحياد، ونأت بنفسها عن التدخّل في الشّأن السّياسي، واختارت حماية المسار الديمقراطي، بدل الانقلاب عليه. وذلك على خلاف المؤسّسة العسكريّة في مصر التي كانت، وما فتئت، قوّة فاعلة في المشهد السياسي، والاقتصادي، والعمراني، وساندت مشروع عبد الفتّاح السيسي في الاستيلاء على الحكم ومصادرة الشرعية، وإلغاء التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة.
أمّا في تونس، فأدّى المسار السياسي الديمقراطي إلى تنوّع الفاعلين في المجال العامّ، وإلى صعود ثقافة الاختلاف، وتعزيز نهج التنافس السلمي على السلطة عبر الاحتكام إلى الدستور وصندوق الاقتراع. ونتيجة ذلك، تعدّدت المواسم الانتخابية النزيهة في البلاد. وحكم تونس بعد الثورة خمسة رؤساء، كلّهم لا يُشبهون عبد الفتاح السيسي، فهو عسكري، وهم مدنيون، ينتمون أساسا إلى سياق أكاديمي، قانوني، حقوقي. وهم بلغوا الحكم بإرادة الناخبين، أو بموجب مقتضيات الدستور، أمّا هو فبلغ الحكم بقوّة العسكر، وبموجب التفويض، والانقلاب على الشرعية. وهو يحتكر السلطة، ويُمدّد لنفسه الولاية على النّاس، ولا يقبل بمن يُنافسه على كرسيّ الحكم. بل يزجّ من ينوي ذلك في غياهب السجون، قائلا: “لن أسمح لأحد بأن يقترب من الكرسي ده (كرسي الحكم)”. أمّا حكّام تونس بعد الثورة، فلا يحتكرون الحكم، بل فسحوا المجال للتنافس السلمي/ المواطني على هذا التكليف. ولَمْ يُمدّدوا الحكم لأنفسهم. بل احتكمو إلى قرار الناخبين. وحاكم مصر نفوذه مُطلَق، ويده طولى، وسلطاته واسعة، ولا رقيب عليه. أمّا حُكّام تونس، فصلاحياتهم محدودة، وسياساتهم خاضعة لرقابة المواطن، والبرلمان، والقضاء، ومنظمات المجتمع المدني.
في مستوى آخر، تتصدّر تونس الدول العربيّة في مؤشّر الديمقراطية، وحرّية الضمير، والتعبير، والتنظّم، واحترام الحرّيات العامّة والخاصّة، وتعيش تعدّدية نوعية في مجالات شتّى. وبشأن مصر، تقول تقارير منظّمات حقوقية ومراكز بحث دولية موثوقة إنّها تعرف انحدارا غير مسبوق في مجال حقوق الإنسان، حتّى أنّ التظاهر ممنوع، ونقد الجيش والنظام الحاكم محظور، وتكوين أحزاب معارضة جادّة مُحَالٌ، ونشاط أغلب الجمعيات المدنية الحقوقية مُصادر، ومواقع الإنترنت المخالفة للنظام محجوبة، والقضاء رهينة العسكر، وبوليس النظام يُفتّش في عقائد النّاس وأفكارهم وهواتفهم. ويقبع آلاف في السجون على خلفية آرائهم السياسية، وأعمالهم الاحتجاجية السلمية، فيما اختفى آخرون قسريّا، ولا يُعلم مصيرهم، وقُتل غيرهم خارج إطار القانون. والواقع في تونس بعد الثورة نقيض ذلك، فلا تكاد تجد في البلاد سجينا على خلفية رأيه، والحرّيات الأكاديمية والتعبيرية مضمونة، ووسائل الإعلام عديدة، ومواقع الإنترنت مفتوحة، والتظاهر حالة يوميّة، ونقد النّظام عادة جمعيّة، والقضاء يتمتّع بهامش معتبر من الاستقلالية. ولذلك تبدو الحالة التونسية مفارقة للحالة المصرية. والمشابهة بين البلدين سياسيا، وحقوقيّا، وعمرانيّا في السياق الرّاهن أقرب إلى التمويه، والتعتيم، وقلب الحقائق منها إلى لزوم الموضوعية.
عمليّا، يُمكن القول إنّ ما أدّى إليه الانقلاب العسكري في مصر من سفك للدّماء وقمع للحرّيات العامّة والخاصّة، وإقصاء للآخر، وتقسيم للمجتمع، وإذكاء لأسباب الاستقطاب الثّنائي بين داعين لحكم الجيش ومعارضين له زاد في ارتياب التونسيّين من عواقب التّغيير بالقوّة، ودفع الفرقاء السياسيّين نحو طاولة الحوار إلى حلّ الأزمات الطارئة، ونحو الدّمقرطة لإدارة شؤون البلاد. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ المجتمع التونسي يشهد منذ سنة 2011 حالة تشكّل تدريجيّ لنموذج عربيّ في الدّيمقراطيّة، يتأسّس على الفاعليّة المواطنيّة، والتعدّديّة الحزبيّة، واحترام الدستور، والتّداول السّلميّ على السّلطة. وتأكّد ذلك في التحاق شباب بمسار المشاركة في التّغيير والقيادة وصنع القرار في الانتخابات الرّئاسية أخيرا (2019). والواقع خلاف ذلك في مصر، حيث يبدو المشهد السياسي نمطيّا، ونظام الحكم أحاديّا، والشباب مُغيّبا، والاحتكام إلى الديمقراطيّة مؤجّلا.
ختاما، بيّنت الحالة السياسية في تونس أنّ التعلّمية الدّيمقراطيّة مسارٌ طويلٌ تكتسبه الشّعوب بطول الممارسة، وبتحويل الوعي السّياسي من متصوَّر ذهني إلى منْجَز جَمْعي، عمليّ خلاق، يتجاوز عصر الدولة القامعة، ويؤسّس عصر الجمهورية الثانية، جمهورية المواطنين. أمّا في مصر فأنتجت الحالة السياسية المتوتّرة جمهوريّة ضبّاط، لا محالة.
تونس ومصر.. المشابهة المستحيلة / أنور الجمعاوي
8
المقالة السابقة