حتى الآن لم تجف دموع الناس على شهداء العمليتين الإرهابيتين في كل من مدينتي الفحيص والسلط في الأردن، ولا يزال أثر الصدمة باديا على المجتمع بعد أن ضرب الإرهاب مجددا بلدهم الذي يئن تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية.
تضج وسائل التواصل الاجتماعي بصور الشهداء الذين ذهبوا ضحايا العمليتين الإرهابيتين، وملك الأردن وولي عهده زارا كل بيوت العزاء في القرى والبادية. نجحت الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية في توحيد موقف الشارع، ورص الصفوف في مواجهة الإرهاب، وتقديم المعلومات للجمهور أولا بأول لقطع الطريق على الشائعات، حتى وإن كان لهذا النهج ثمن في نشر بعض المعلومات غير الدقيقة والمربكة.
كان المواطن الأردني النجم الأول بلا منازع. هو يريد أن يتقدم خطوط الأجهزة الأمنية ليضرب خلايا الإرهاب بيده وبشكل مباشر، ويريد أن يبث مباشرة عبر “فيسبوك” مجريات العملية الإرهابية من “عين المكان” من دون أن يذكره أحد بأن نشره يعطي إحداثيات مباشرة للإرهابيين ويعرض سلامة رجال الأمن للخطر.
خلية السلط “أردنية” والأمن يتحفظ عن نشر أسماء المتهمين.. والشارع يتوحد ضد الإرهاب
عرف الشهداء في الأردن، لكن المتهمين بالعمليات الإرهابية لم تنشر أسماؤهم أو صورهم رسميا، وهذا يثير لغطا اجتماعيا وإعلاميا، دفع بالكثير من “العقلاء” للتذكير بأن الإرهابي يمثل نفسه ولا يمثل عائلته وعشيرته.
تفيد المعلومات الأولية التي نشرتها الحكومة وأجهزة الأمن بإلقاء القبض على خمسة إرهابيين وهم رهن التحقيق، وقتل ثلاثة منهم خلال المداهمة الأمنية للعمارة التي تحصنوا بها في “نقب الدبور” بالسلط وفجروها أثناء محاولات الأمن السيطرة عليها.
استمرت عمليات التفتيش والمداهمات بعد انتهاء العملية الأمنية في مدينة السلط التي تبعد عن العاصمة عمان نحو 20 كم، لكن لم تقدم أجهزة الاستخبارات في الأردن جوابا قاطعا إن كان من اعتقل وقتل هم كل أعضاء الخلية الإرهابية!
ضرب الإرهاب مجددا في لحظة فرح أردنية. فعند بوابة مهرجان الفحيص انفجرت عبوة ناسفة استشهد على أثرها رجل أمن أردني. الرواية الأولى التي شاعت كانت انفجار “قنبلة غاز” قبل أن تعلن الأجهزة الأمنية أنها كانت قنبلة بدائية الصنع، وقبل أن تقر بأنها فجرت “بالريموت كونترول”.
التفجير أمام بوابة مهرجان الفحيص لم يكن عبثيا، فالرسالة الأولى أن “قوى الظلام” تريد إعادة انتاج خطابها الديني المعارض والرافض للمهرجانات الفنية والثقافية، ولهذا كان الرد حاسما باستمرار المهرجان، وعدم الإعلان عن التفجير بذات الوقت حتى لا تتوقف فعالية المهرجان. الرسالة الثانية التي لا تستبعد من خلال المشهد الإرهابي أن مدينة الفحيص الوادعة، ذات أغلبية مسيحية، والإرهابيون يريدون للخوف والطائفية أن يتعززا في الأردن.
الرسالة الثالثة وهي الأهم؛ أنهم “موجودون”، أي الإرهابيون، وقادرون على الضرب، وفي هذه الحادثة على وجه التحديد فإن جميع المتهمين الموقوفين أو الذين قتلوا “أردنيون”. العملية من ألفها إلى يائها “صناعة أردنية” 100 في المئة، إن جاز التعبير. وهذا ما أكده وزير الداخلية الأردني سمير مبيضين حين قال إنهم مؤيدون للفكر المتطرف لـ”داعش” وليسوا أعضاء في التنظيم.
أعادت تصريحات وزير الداخلية للواجهة المخاوف من وجود خلايا نائمة للتنظيمات الإرهابية أو المؤيدين لها، وأعادت الجدل حول البيئات الحاضنة للفكر المتطرف والإرهابي، ونبشت المسكوت عنه بفشل المقاربات واستراتيجيات مكافحة التطرف والإرهاب التي تبنتها الحكومات الأردنية منذ عام 2012، وقرعت جرس الإنذار مرة أخرى بأسئلة منها: كم هو عدد الإرهابيين الذين يعيشون بيننا؟ كم عدد المؤيدين والمريدين للتنظيمات الإرهابية؟ ماذا علينا أن نفعل لمواجهة هذا الخطر الداهم؟!
في سابقة لافتة لتهدئة الرأي العام الأردني والإجابة على تساؤلات الرأي العام، عقد وزيرا الداخلية وشؤون الإعلام يصاحبهما مديرا الدرك والأمن العام مؤتمرا صحافيا تحدثوا فيه أمام الإعلام بتفاصيل كثيرة مهمة، من أبرزها أن هدف الإرهابيين استهداف مواقع أمنية وشعبية، وأن التحرك ضد الخلية الإرهابية تم بعد 12 ساعة من تفجير الفحيص، وأن الخلية التي تم القبض على عناصرها حديثة التشكيل وليست ممولة من الخارج، وبأنهم اكتشفوا بعد مداهمتهم وإلقاء القبض عليهم مواد حمضية وعبوات ناسفة مزروعة وجاهزة للتفجير إلكترونيا.
أجاب المؤتمر الصحافي على أسئلة مهمة، لكنه تجاهل أسئلة أخرى تشغل بال المتابعين والإعلاميين، ربما لا يريد المسؤولون الكشف عن أجوبتها لتأثيرها على مسار التحقيق، أو لأنهم لا يملكون إجابات قاطعة.
من الأسئلة المثيرة، كيف توصلت أجهزة الأمن والاستخبارات في الأردن بسرعة فائقة للخلية الإرهابية التي قامت بتفجير الفحيص قبل انقضاء 24 ساعة؟ ولماذا وقع هذا العدد الكبير من الضحايا والإصابات بين القوة الأمنية والمدنيين؟ وهل يعقل أن تتحرك قوات أمنية محترفة مثل الجيش الأردني والمخابرات من دون التأكد من عدم تفخيخ المبنى الذي تحصن فيه الإرهابيون؟!
يسأل الناس في الأردن، الذين يتندر المتابعون بأنهم تحولوا جميعا لمحللين أمنيين، لماذا لم يحدث “تشويش” على الاتصالات في منطقة العمليات؟ بل يذهب آخرون للتشكيك في اتباع قواعد الاشتباك في التعامل مع الإرهابيين خلال عملية السلط!
لم تطو صفحة العملية الإرهابية في الفحيص والسلط بعد، فالدماء ما زالت دافئة، والملك عبد الله يتوعد بأن الأردن سيحاسب كل من سولت له نفسه المساس بأمنه، و”الإرهابيون” المفترضون في كل “حارة” يتحركون طلقاء كألغام قابلة للانفجار في أي لحظة.
يقول الباحث في الجماعات الإسلامية المتشددة الدكتور محمد أبو رمان في مقال نشرته جريدة الغد الأردنية بعد العلميات الإرهابية: “لقد ثبت بأن فكر “داعش” لا يموت، بل يصعد في فترات ويتراجع في فترات أخرى”.
الضربات الموجعة لتنظيم “داعش” و”النصرة” في سورية والعراق، وقبل ذلك لتنظيم “القاعدة” لم تنه مخاطر التنظيم وقدرته على تنظيم نفسه وتوجيه ضربات موجعة، بل والأخطر استمرار قدرته على الاستقطاب من دون خلايا تنظيمية، بل من خلال تقديم “الفكر النموذج” وتعميم تجربة “الذئاب المنفردة”.
يعكف المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي يقوده الدكتور مصطفى حمارنة، منذ أسابيع على عقد جلسات حوار تحت عنوان “حالة البلاد” مستندا إلى أوراق عمل معدة بشكل جيد، من بينها ورقة ليست معدة للنشر عن مكافحة التطرف.
المجلس الاقتصادي الاجتماعي يتحدث عن أربعة آلاف شخص ينضوون تحت تنظيمات إرهابية..
تشير ورقة العمل بشكل غير مباشر إلى عدم النجاح في بناء استراتيجية لمكافحة التطرف في البلاد. فاستراتيجية مكافحة التطرف التي بدأت عام 2012، ثم عدلت عام 2014 وسميت الخطة الوطنية لمواجهة التطرف والعنف واسندت لوزارة الداخلية، وعدلت مرة أخرى عام 2015، وانتهى بها المطاف لمديرية لمكافحة التطرف التي تتبع لوزارة الثقافة من دون أي موازنة مالية.
فجر تجدد العمليات الإرهابية في الأردن من جديد نقاشات ساخنة حول نجاعة الاستراتيجيات والمقاربات المتبعة لمكافحة التطرف والإرهاب في ظل حديث عن وجود أربعة آلاف أردني وأردنية منضمون لتنظيمات مصنفة على أنها إرهابية، هذا عدا عن المؤيدين والمريدين، ولا يعرف إن كان هذا العدد الذي أورده المجلس الاقتصادي الاجتماعي محسوب منه الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية خارج الأردن وخاصة في سورية!
تسعى ورقة العمل إلى “جردة حساب” لدوافع التطرف وتحصرها في الدوافع الدينية (التكفير)، والدوافع الاجتماعية والنفسية، وأبرزها الظلم والإحباط، وتستشهد الدراسة بمقولة لإيريك هوفر بكتابه “المؤمن الصادق” “أن المحبطين أكثر الناس قدرة على أن يكونوا اتباعا مخلصين”.
وتتابع ورقة العمل عرض الدوافع السياسية والاقتصادية وأثر المنظومة التعليمية على إذكاء التطرف، وتنتهي بتأثيرات وسائل الإعلام و”السوشيل ميديا” التي أمنت القدرة على التنسيق والتجنيد لهذه التنظيمات الإرهابية.
الأردن موجوع ومصدوم من العمليات الإرهابية، وما يؤلمه أكثر أن من يغتال فرحة البلد هم من أبنائه، ورغم ذلك فإن الأردن، هذا الوطن الصغير، لا يزال قادرا على أن يتغنى بشهدائه، وينهض كطائر العنقاء، مبشرا بالأمل القادم.