تبدو الخيارات المتاحة للأكراد السوريّين سيّئة كلّها: احتلال كرديّ أم احتلال أسديّ. «عودة إلى حضن وطن» لم يكن مرّةً وطناً لهم أم قفزات في الفراغ.
أخطأوا؟ بالتأكيد. وبعض الأخطاء كانت فادحة في سوريّة وقبلها في العراق. لكنْ لا بأس بالعودة إلى الأساسيّات.
هنا، حين نقول «الأكراد» لا نغفل عن الفوارق في ما بينهم، ولا نتجاهل أنّ أحداث عفرين محكومة بعوامل لا تطابق العوامل التي حكمت أحداث كركوك. مع هذا، ثمّة الكثير ممّا يوحي أنّ مشكلة الأكراد توحّدهم لأنّ العالم يوحّدهم بصفتهم أكراداً، قبل أن يطالبهم، إذا أرادوا الخلاص، بالتوقّف عن أن يكونوا أكراداً.
هذا يسمح بالقول إنّ الأخطاء ليست ما يُنتج وضعهم السيّء، بل هي ما يظهّره ويزيده سوءاً. هذا الوصف ينطبق عليهم منذ الانقلاب على معاهدة سيفر في 1920 إلى معاهدة لوزان في 1923. المعاهدة الأولى وعدتهم بدولة. الثانية، التي فرضتها انتصارات أتاتورك، انتزعت منهم هذا الوعد. لقد تأكّد أنّ نشأة الدولة القوميّة على جثّة السلطنة العثمانيّة ستكون على حسابهم قبل أن تكون على حساب أيّ طرف آخر.
الآن: أكراد العراق، الذين يعدّون أكثر من ضعف الأكراد السوريّين، لم يُحرزوا شيئاً ممّا صوّتوا لأجله. حصدوا احتلال كركوك وهزيمة لم تتبيّن حتّى الآن كامل نتائجها الكارثيّة عليهم. فلماذا، إذاً، سيخرج الأكراد السوريّون الأضعف والأصغر بنتائج أفضل؟
يضاف إلى ذلك أنّ أكراد العراق متواصلون جغرافيّاً، فيما الأكراد السوريّون غير متواصلين. وأكراد العراق غير متّهمين بالأوجلانيّة. أكراد سوريّة متّهمون بقوّة.
على ماذا التعويل إذاً هنا وهناك؟ على الدعم الأميركيّ للأكراد السوريّين؟ لقد سبق أن رأينا مثل هذا الدعم لأكراد العراق!
يفسّر هذا الواقع المؤلم أنّ الأكراد هم الآخر المطلق في المنطقة. منافسوهم على صفة الضحيّة الأولى في الشرق الأوسط، أي الفلسطينيّون، أحسن حالاً. الفلسطينيّون، قوميّةً ولغةً، عرب، ينتمون إلى محيط هائل الضخامة قد لا يتحمّس لخوض معاركهم، لكنّه يرتبك حيال التملّص منهم أو إنزال الأذى بهم. صعود القوميّات التي تسنّى لها أن تنشئ دولاً طرد الأكراد كلّيّاً إلى الوحشة.
من ناحية أخرى، الإسلام السنّيّ، كهويّة دينيّة، يجمع بين أكثريّة الأكراد وأكثريّة الفلسطينيّين. لكنْ هنا أيضاً ثمّة فارق بارز: حركة «حماس» ذات الأصول الإخوانيّة قوّة بارزة وأساسيّة بين الفلسطينيّين. إنّها تحكم قطاع غزّة. أمّا الإخوان المسلمون فهم الطرف الذي قاتل ويقاتل الأكراد، إلى جانب الأتراك، في عفرين. في المقابل، كان الأكراد أكثر من حاربوا الصيغة الأشدّ تطرّفاً من الإسلام السياسيّ، أي «تنظيم الدولة». زعاماتهم العشائريّة وطرقهم الصوفيّة لم تترك للإسلام الحركيّ والمسيّس مواطئ قدم يُعتدّ بها. تأسيس الأتاتوركيّة التركيّة لقومنة الإسلام، أو لتتريكه، أضعف نسبة الأكراد إلى الإسلام. إنّهم أكراد فحسب.
14 مليوناً في تركيا و6 في إيران و6 في العراق وقرابة 3 في سورية و5 ملايين في الدياسبورا… كلّهم مجرّد أعداد. مجرّد غرباء. العالم يتّفق بسهولة ضدّهم، كما حصل في كركوك. كما هو حاصل، على الأرجح، في عفرين. كما حصل في العراق أواسط السبعينات. كما حصل مع انتفاضة الشيخ سعيد في تركيّا عام 1925 التي تعاونت عليها تركيّا وفرنسا. كما حصل مع انتفاضة آرارات في 1930 التي تواطأ ضدّها، فضلاً عن تركيّا، بريطانيا وإيران والاتّحاد السوفياتيّ السابق…
ولأنّ الأكراد هم الآخر المطلق، والضدّ المطلق، نيط بهم، كما كتب حميد بوزرسلان، أن «يكفّروا عن الذنوب «الانفصاليّة» لبقية الشعوب». لقد اُعدم الشيخ سعيد في 1925 لا لأنّه انتفض فحسب، بل أيضاً «لأنّ دوافع وأسباب التمرّد الأخير في المقاطعات الشرقيّة من الوطن التركيّ الخالد مماثلة لتلك التي ثارت، في ماضٍ غير بعيد، في البوسنة والهرسك المحاطة من ثلاث جهات بأعراق ليست تركيّة ولا مسلمة، ولتلك التي دفعت الألبان، على رغم خمسة قرون من الإخاء، إلى طعن الأتراك في الظهر، وهم الذين لطالما أظهروا محبّة كبيرة لمواطنيهم (…) إنّ الهدف والغاية اللذين ولّدا الثورة الكرديّة هما ذاتهما اللذان كانا قد أفسدا سوريّة وفلسطين…».
هذا النهج لا يزال معمولاً به، مرّة هنا ومرّة هناك، ودائماً ضدّ الأكراد، وغالباً بدم كثير.