صادف هذا الأسبوع الذكرى المئوية على انطلاق الجريمة البريطانية بحق الشعب الفلسطيني ممثلة بصدور وعد بلفور،والهادفة إلى انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد تم «شرعنة» الجريمة في المجتمع الدولي بصدور قرار عصبة الأمم عام 1920 بانتداب بريطانيا على فلسطين. وتضمنت وثيقة الانتداب في مادتها الثانية إنشاء الوطن القومي، دون أي إشارة إلى « الحقوق السياسية» للفلسطينيين، كما هو الحال في تصريح بلفور، وانما أشار فقط إلى الحقوق المدنية والدينية للسكان.
عملت بريطانيا بقوة و دهاء حتى عام 1948 على تمكين المهاجرين اليهود من غزو الأراضي الفلسطينية والاستيلاء عليها تمهيداً لإقامة دولة لهم اعترفت بها الأمم المتحدة. ورغم تجاهل بريطانيا و حلفائها حقيقة استلاب وطن لا تملكه من شعب على أرضه لتمنحها إلى مهاجرين تركوا أرضهم في أوروبا وبلدان أخرى مدفوعين بمشروع استعماري على النموذج الأمريكي أو الأسترالي، الا أن الضمير البريطاني الرسمي لم يعترف بهذه الجريمة حتى اليوم، ولم تعتذر الحكومة البريطانية عن الخطيئة التاريخية بحق الفلسطينيين. ومع هذا، فإن نضال الفلسطينيين من أجل أرضهم لم يتوقف لسنة واحدة على مدار مئة عام، قدم الفلسطينيون خلالها أكثر من 150 ألف شهيد، وتم تدمير مئات القرى وآلاف المرافق و المشاريع،وتشريد الملايين منهم من خلال عصابات و إدارات يهودية عنصرية اسرائيلية، ودعم بريطاني أمريكي لم يتوقف حتى اليوم. لقد كانت ولا تزال معركة غير متكافئة، بين شعب صغير محدود الامكانات هو الشعب الفلسطيني، وبين ملايين المهاجرين اليهود من أوروبا يتمتعون بالدعم الأمريكي و البريطاني المطلق والمال اليهودي العالمي، والنفوذ الصهيوني في أوروبا و امريكا.
إن تصريحات «تيريزا ماي» بسعادتها بإلاحتفال بالمناسبة المئوية للجريمة تخلو من اللياقة والدبلوماسية بل الانسانية. وهي نموذج «للحول» والنفاق السياسي، فهي لا ترى الضحية و تحتفل مع الجاني، وهذا يكشف بوضوح ان العقلية الاستعمارية العنصرية والخضوع للضغوط الصهيونية لازالت مسيطرة على الحكومة البريطانية، التي لم تلتفت حتى الآن إلى جريمتها في تدبير اغتصاب الوطن الفلسطيني لحل مسألة لا علاقة للفلسطينيين بها. إن جزءا كبيراً من الشعب البريطاني ومن النواب أبرياء من الجريمة، ولا يوافقون اليوم على النهج الاستعماري اللانساني الذي تمثله حكومتهم، ولكن السياسيين غالبا ما يشترون مستقبلهم على حساب الآخرين، ويفكرون في مناصبهم السياسية قبل التفكير في حقوق الشعوب، وفي القانون الدولي والانساني.
إن التركيز على « الإحتلال و التوسع،و شراء أهل السياسة والقرار والنفوذ، وتضليل الرأي العالمي، وتزييف الوقائع، وتشويه صورة الفلسطيني والعربي، يشكل فصلا رئيساً « في استراتيجية الحركة الصهيونية التي لازالت تسعى بقوة ودهاء ومكر لابتلاع الجزء المتبقي من الأراضي الفلسطينية، وأراضي عربية حولها،والقضاء على الوجود السكاني والثقافي والتاريخي للشعب الفلسطيني، وهذا يجعل من اسرائيل خطراً على فلسطين وعلى الدول العربية المجاورة.
ومع هذا فإن حرب استعادة الحقوق لم تضع أوزارها، والجريمة لم تتوقف حتى الآن. فلا اسرائيل التي انجرفت نحو اليمين العنصري مستعدة للسلام،ولا تقبل بحل الدولتين على حدود 1967، ولا القوى الاستعمارية بريطانيا والولايات المتحدة توقفت عن مد الاحتلال، ودعمه ماديا ومعنوياً وقانونياً ودبلوماسياً وعسكرياً حتى اليوم، ولا الفلسطينيون استسلموا، وما عليهم الا أن يواصلوا كفاحهم، ربما لعشر سنوات أوعشرين أو خمسين سنة، حتى يتحقق لهم ما يريدون. فالاستسلام للجريمة وهو حلم المؤسسة الصهيونية أمر بشع كالجريمة.وما تسعى اليه اسرائيل و الصهيونية أن يوصلوا الشعب الفلسطيني إلى نقطة «الاستسلام لتبدأ المفاوضات الجادة « كما طالب جابوتنسكي قبل 80 عاماً.
على الفلسطينيين ومعهم العرب أن يستثمروا التحول الذي أخذ طريقه إلى الرأي العام الأوروبي والأمريكي حول عدوانية اسرائيل وعنصريتها وعدم جديتها في السلام، ويستثمروا التحول لبدء فصل جديد من النضال والكفاح القائم على العقل والعلم والحكمة والوطنية والقانون بـ. أولا: تمتين الوحدة الفلسطينية، بعيدا عن التشبث بالسلطة و التحزب الضيق، وتجديد مؤسساتها، وجسر الفجوة بين الضفة وغزة، وعدم السماح لاسرائيل أو أدواتها أن تعيد الانقسام. ثانياً: دعم وتعزيز وتجذير الصمود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية بكل الوسائل المادية والمعنوية و القانونية، مهما توحش الاحتلال ومهما أوغل في مشاريعه الاستيطانية، ومهما وضع من «برامج لاسقاط الشباب» الفلسطيني. ثالثا: دعم حركة المقاطعة الدولية لاسرائيلBDS والتواصل مع المجموعات المهنية والحقوقية والأكاديمية و البرلمانية في جميع أنحاء العالم؛ للاحتجاج على القوانين التي صدرت ضد حركة المقاطعة، أو الشروط التمويلية المؤيدة للاحتلال، والعمل على تطبيق المقاطعة الشعبية في المنطقة العربية، فهي الأساس وليس الرسمية. رابعاً: تصحيح «الصورة المشوهة التي فبركتها اسرائيل» عن الفلسطينيين واظهار الجانب الانساني والفكري والثقافي و الفني والعلمي للشعب الفلسطيني في كل محفل، وفي كل مناسبة ولدى كل مؤسسة دولية أو شعبية. خامساً: التنبه الواعي للحملات الاعلامية، والمواقع الالكترونية الاسرائيلية التي تسعى إلى تصدير الأزمات إلى المجتمعات العربية، من خلال المنصات و المقولات الدينية والطائفية والعرقية والجهوية المشوهة، ومن خلال تصدير مصطلحات سياسية تهدف إلى صرف الفلسطينيين عن كفاحهم وإشاعة شعور اليأس لديهم من مثل: الوطن البديل، واستحالة حل الدولتين، وفشل الكفاح الفلسطيني، والتطبيع، وغير ذلك الكثير. سادساً: التوجه إلى المؤسسات الدولية البرلمانية والقانونية للمطالبة بالحقوق الفلسطينية بما في ذلك اعتذار بريطانيا عن مسؤوليتها التاريخية في تشريد الشعب الفلسطيني والتغافل عن حقوقه السياسية والانسانية.
إن مرور مئة عام على الكفاح الفلسطيني ضد العنصرية والاستعمار الصهيوني الإسرائيلي يذكر الجميع بكلمات توفيق زياد التي ينبغي أن يرددها كل طفل فلسطيني: «هنا على صدوركم كالجدار باقون، لا نرحل كأننا عشرون مستحيل»،(فعودوا من حيث جئتم). فالتاريخ، تصنعه الشعوب المناضلة من أجل حقوقها، ولا ينتهي أبدا بمئة عام.