لسنوات طويلة تبقى المسألة الاقتصادية الوطنية معلقة، تتأرجح بين الوعود والافتراضات، والكلمات والتصريحات، والثقة والإحباط،والتطلع إلى الخارج والأمل في الداخل، وغير ذلك الكثير. وخلال هذه السنوات المتتالية تتراجع حالة الأرياف والبوادي، وتتفاقم مسألة البطالة لتتعدى 18%،و في بعض المحافظات تجاوزت 22%، وتزداد الحياة اليومية للمواطن مشقة، ويزداد ارتهانه للديون حيث يبلغ معدل استدانة الأفراد 69.3% من دخلهم، في حين أن مديونية البلاد 93% من الناتج المحلي الاجمالي. ويتزايد الاستيراد حتى يصل 13.7 مليار دينار عام 2016 مقابل صادرات 5.3 مليار وبعجز 8.4 مليار دينار.
كل هذا بينما مئات من المشاريع تتعثر، وينمو الاقتصاد بمعدلات غاية في البطء والتواضع، تراوح حول 2%، وهذه نسبة غير كافية أبدا لمواجهة الحالة السكانية المتضخمة، وبالكاد تولد أكثر من 25 ألف فرصة عمل سنوياً، في حين أن المطلوب سنوياً يتعدى 70 ألف فرصة عمل، أي أن حجم العاطلين عن العمل في تزايد، والهجرة من الريف إلى المدينة هي الأعلى بين دول المنطقة، وفي الوقت نفسه تتعالى وتتكرر مناداة القطاعات الزراعية والصناعية بحاجتها إلى أيدي عاملة وافدة بينما يتواجد في الأردن 1.25 مليون عامل وافد. ولم تستطع المؤسسة الرسمية خلال سنوات أن تجد حلاً لهذه المتناقضة العجيبة: «البلاد تشكو من البطالة المرتفعة، وتنوء بالعمالة الوافدة واللاجئة، بينما القطاعات المختلفة تطالب بمزيد من العمالة الوافدة.»
وبدلاً من التركيز على الداخل الوطني لحل مشكلاته، وتحفيز أدائه، تتجه أنظار وأفكار الحكومات المتعاقبة إلى الخارج بما في ذلك مزيد من التداخل الاقتصادي غير المبرر، وغير المجدي، وغير الآمن، مع اسرائيل في مفاصل استراتيجية تشمل المياه والغاز والكهرباء وربما السكة الحديد، ويزداد تدفق العمالة الأردنية باتجاه اسرائيل، الأمر الذي سيعكس مزيداً من الاشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويخلق نقاط ضعف جديدة في المنظومة الاقتصادية الوطنية ستكون موضعا للإبتزاز. ورغم تصاعد المديونية، واشتداد المعارضة الشعبية، فلا زال هناك اصرار على إنشاء المحطة النووية بكلفتها المتزايدة وأعبائها الضخمة واستحالة الأمان الوطني في حالة الكارثة النووية.
ومع هذا، ورغم ما كتب من تقارير واستراتيجيات الأردن 2025 و 2030 فإن أحدا لا يرى توجها متماسكاً للتنفيذ و لا برنامجا يعتمد الأردن فيه على نفسه،وليس على الآخرين. بل أن المساعدات والمنح التي ولى عصرها الذهبي،رغم ما تحمل من الشروط أكثر مما تحمل من حرية الاختيار و القرار،، لا زالت تداعب خيال الكثيرين . أما المشاريع الإقليمية مثل معبر الطريبيل أوانبوب نفط من العراق أو غير ذلك، فهي من جهة لن تحدث التغيير الاقتصادي المنشود،و ليس لها فرصة مضمونة قبل عودة المنطقة إلى الاستقرار من جهة أخرى، وقبل الوصول إلى تفاهمات سياسية اقليمية ودولية تحدد معالم مستقبل الدول التي انزلقت نحو الحروب الأهلية.
متى تقتنع الإدارة الرسمية لدينا « إن المساعدات لا تصنع اقتصادات وطنية متماسكة، وأن المنح هي مجرد مسكنات تسد ثقوباً في موازنة الحكومة وليس علاجا ناجعاً «؟ إن منطق الأشياء وتجارب الشعوب تدل بكل وضوح وقطعية أن الأوضاع الاقتصادية في أي بلد لا تتحسن تلقائيا وبذاتها ومع الزمن، سواء كانت فترة الانتظار تسعة أشهر، أو تسع سنوات،أو حتى تسعين سنة . وليس هناك من تحسن ونهوض ونمو دون برامج وطنية عميقة وعريضة طويلة الأمد لتشمل كل نشاط اقتصادي ممكن.
وحقيقة الأمر أن المواطن منذ سنوات وإلى أن وصلنا إلى الانتخابات البلدية واللامركزية كان يتوقع أن تطلع الحكومة بإرادة قاطعة للخروج من الأزمة من خلال برنامج اقتصادي واضح ترافقه تغيرات إدارية جادة و عميقة تسمح للبرامج في النجاح. ويشارك الجميع في التنفيذ. ولكن لا شيء من هذا القبيل يلوح في الأفق على ما يبدو، سوى الإنتظار. إن الأسباب التي تؤدي إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي أو التراجع والتي نعاني منها منذ 25 سنة أو يزيد هي عديدة وتشمل: الفساد وسوء الحاكمية وترهل المؤسسات الحكومية وضعف حكم القانون وتراجع الخدمات العامة والاستغلال السياسي والتنافس على المكاسب بين المتنفذين يضاف إلى ذلك تهميش المرأة في العمل والإدارة ومرافق الدولة ونقص الإبداع والتجديد في الإدارة العامة. وهذه تتعدى قيمتها الاقتصادية 15% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يقرب من 3 مليارات دينار سنويا، هذا إضافة إلى حالة الانفلات السكاني والأوضاع السياسية في المحيط الجغرافي.
ورغم نداءات الملك المتكررة بضرورة الثورة الإدارية البيضاء ومعالجة المفردات الواردة أعلاه الا أن شيئا لم يقع في هذا الاتجاه. وإذا اردنا أن نتحدث عن رؤية لما ينبغي الشروع به فالقائمة طويلة، ولكن يمكن الإشارة إلى المفاصل الرئيسة التالية : أولاً :حل المشكلات التي تعترض المصانع والشركات المتعثرة ووضع مدونة سلوك لمجالس إدارة هذه الشركات والانتهاء من سياسات التنفيع. ثانياً : وضع الحلول والاجراءات اللازمة لنقص العمالة في القطاعين الصناعي والزراعي من خلال العمالة الأردنية وليس الوافدة وإنشاء صناديق لدعم العمالة الوطنية. ثالثاً : دعوة القطاعات المتخصصة والشركات الكبرى للمساهمة في إنشاء مراكز تأهيل وتدريب متخصصة تسد احتياجاتها من الأيدي العاملة. رابعاً : التوجه نحو التصنيع والانتاج بدلاً من الاستيراد، وذلك بوضع قوائم من الصناعات الإحلالية ودعوة المستثمرين لإنشاء مشاريع خاصة بها وبمشاركة الحكومة وتبدأ في المحافظات. خامساً : إنشاء تجمعات من صغار المستثمرين في شركات قابضة تساهم في إنشاء مشاريع جديدة تخفف من قائمة الاستيراد. سادساً : إعادة إنشاء بنك الإنماء الصناعي ووضع نهاية للتهرب الضريبي الذي تتعدى قيمته 900 مليون دينا سنويا. سابعاً: وضع برنامج لتصنيع قطاع الزراعة سواء من حيث المدخلات أو التكنولوجيا المستخدمة أو المنتجات النهائية باعتبار ذلك شرطا لاقبال الشباب الأردني على دخول هذا القطاع والمحافظة على استقراره. ثامناً : التعاقد مع الشركات الكبرى لإنشاء صناعات فرعية لها علاقات مما تنتجه تلك الشركات.
وأخيراً فإن القضاء على داعش والحركات الإرهابية الذي أصبح وشيكا،لن يفتح باب الإزدهار والرخاء تلقائياً، بل سيخلق ضغوطاً اجتماعية كبيرة لا يمكن إذاك إستنكارها أو مواجهتها من خلال مجرد الاستقرار السياسي للمنطقة. ولن يكون هناك مبرر لمزيد من التلكؤ و التردد، فالمستقبل أسرع بكثير من الإنتظار .