في الآونة الأخيرة بات واضحاً أن رئيس النظام السوري لا يفوت فرصة إعلامية الا ويعتد فيها بنجاحه في جعل النسيج الاجتماعي في بلده أكثر نقاء وانسجاماً. كأن بشار الأسد أدرك قبل غيره أن خطاب حماية التنوع والفسيفساء الذي منحه حصانة دولية لبضع سنوات أباد خلالها معارضيه، ناهز انتهاء صلاحيته، فعاد اليوم بخطاب أكثر وضوحاً وعلانية يقول فيه: من ليس منا، فليرحل عنا. وكيفما كان شكل ذلك الرحيل، سواء بالهروب إلى خارج الحدود، أو الموت داخلها، أو حتى اعتماد الصمت سياسة نجاة، المهم ألا يعكر شيء صفو النقاء والانسجام.
وكما في سورية كذلك في لبنان، ثمة اتجاه واضح للسلطة الحاكمة المتمثلة بـ «حزب الله» تحديداً، والمتفرعة عنه أطيافاً وأذرعاً، نحو تكريس «النقاء والانسجام» الاجتماعيين ولو بوسائل مختلفة.
وإن بلغت كلفة ذلك المشروع التطهيري في سورية 11 مليون لاجئ وأكثر من مليوني قتيل وجريح حتى الساعة، إضافة إلى تدمير مدن ونواح بأكملها، فإن لبنان انتقل إلى مرحلة «القوة الناعمة» بعدما دفع حصته من العنف عبر الاغتيالات والتفجيرات طوال عقد من الزمن. وهو ثمن، أو بالأحرى «خوّة»، ليس ما يحمي اللبنانيين من إعادة تسديدها مرة تلو الأخرى طالما أن البحث عن النقاء المجتمعي قائم. فليس أبلغ من رسالة بنك «لبنان والمهجر» الأخيرة، للتذكير الدائم بأن الخيارات كلها متاحة.
وفي الوقت الذي لم ير النظام السوري في التنوع إلا أقليات طائفية يسهل تسويقها لدى المجتمع الدولي، ذهب حليفه اللبناني خطوة أبعد في مهمة التطويع والتنقية، إذ رفع مسؤولية التنفيذ عن كاهله وسلمها إلى أهلها من الراغبين في علاقة «ذمية» بين الأفراد والمؤسسات (رسمية كانت أو خاصة) من جهة، وبين المواطنين أنفسهم من جهة أخرى، ويمكن هؤلاء أن يكونوا متدينين، أو طائفيين أو حتى من أعتى العلمانيين. وذلك تحديداً ما يجعل تلك علاقة عابرة للطوائف، أقلية كانت أو كثرية، وأكثر تجذراً في الحياة اليومية، بحيث لا يعود ضرورياً اجتراح الحجج الدينية أو السياسية للتدخل في سورية، ولا التلويح بـ «الانتصارات العسكرية» فيها للتهديد عند كل شاردة وواردة في لبنان. بل بات متاحاً ترك تلك الذرائع الوازنة جانباً إلى حين بروز حاجة تضاهيها ثقلاً وأهمية، كمثل إنهاء الفراغ الرئاسي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ريثما ترسو الحرب الإقليمية المجاورة على بر.
أما ما عدا ذلك، فيكفي استخدام السلطة المعنوية المستمدة من انتصارات الحزب خارج الحدود، لفرض «الانسجام» داخلها، وهو انسجام يأتي حصراً وفقاً لذائقة الحزب ومزاج «بيئته الحاضنة».
وفي الوقت الذي سبق لـ «حزب الله» نفسه أن استعان بـ «الإهالي» ضد أهالٍ آخرين عكروا صفو النقاء في مناطق معينة، وشاع المصطلح بصفته يعني الامتداد الاجتماعي للحزب، وسال حبر كثير في توصيف «البيئة الحاضنة»، وتفكيكها، وهو أيضاً مصطلح شاع أكثر مما يُستحب، أعطيت اليوم صلاحيات مفتوحة وسلطة لا تخضع لأي مساءلة، لأصحاب «المبادرة الفردية» الراغبين في تطويع محيطهم بما ينسجم وتطلعاتهم. وتخطى ذلك المحيط الأحياء والمناطق التي أنجز إخضاعها سياسياً وفرزها طائفياً في 7 أيار (مايو)، إلى تكريس ذلك السلوك في عمق مؤسسات الأمنية للدولة والجامعات.
عليه، تختلط الأدوار بين الشرطي، والعسكري، والمقاتل في حزب مسلح، والمتطوع «مدنياً» لتلبية رغبة هذا وذاك، تماماً كما تختلط «المساحة الآمنة» التي يفترض أن تؤمنها البيئة الأكاديمية، بثقافة الشارع وسلوكاته.
هكذا، يتخذ مكتب مكلف ملاحقة الجرائم الإلكترونية (وهي معروفة ومحددة دولياً)، مهمة توقيف مدنيين لما يكتبونه على صفحاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. حدث ذلك سابقاً مع صحافيين ومدونين، وحدث بالأمس مع شاب كتب متعاطفاً مع اللاجئ السوري الذي تتم إهانته في لبنان بذرائع «وطنية». تلك الصلاحية المستحدثة لـ «شرطة الفايسبوك» لا تختلف كثيراً عن «الجيش الإلكتروني» في البلد الشقيق الباحث دائماً عمن وعما يضعف «الشعور القومي» لقمعه وإسكاته. وإلى ذلك، فإن منع أغاني فيروز في حرم الجامعة اللبنانية ثم تبريره الهلامي لاحقاً، وسلسلة الحوادث التي شهدتها الجامعة الوطنية الوحيدة من إقامة مجالس عزاء، ولطميات، و «شرطة ثياب» قد يبدو مقدمة للواقعة الهائلة التي شهدتها الجامعة الأميركية في بيروت. فما حصل في اللبنانية على بشاعته، لم يصل إلى حد التهديد الواضح والصريح بـ «القتل والاغتصاب» كما حدث في الأميركية رداً على شعار رفع أخيراً في تظاهرة تضامنية مع حلب. فعلى أن العدد الخجول للمشاركين يؤشر إلى الانقسام الحاد حول مسألة أساسية كحلب داخل الحرم الجامعي، يبقى أن لافتة تقول «أغاني فيروز حرام، وقتل أطفال حلب حلال» جلب لحاملته تهديداً غير مسبوق. ولعل الأكثر إيلاماً من التهديد ذاته كان رد الإدارة عليه عبر «النادي العلماني»، والذي حذف صورة الطلاب المعنيين «حفاظاً على سلامتهم» عوض أن يتخذ موقفاً واضحاً وشجاعاً ضد من تسول له نفسه تهديد طلاب بالقتل والاغتصاب. وبدلاً من أن تسعى الجامعة «الطليعية» لحماية حرية التعبير والاعتصام داخل حرمها، عبر تحويل المسألة إلى القضاء وجعلها قضية رأي عام، فضلت بدورها مهادنة السلطة وتكريس ثقافة النقاء والانسجام بين طلابها. أليست السلامة أهم من الحرية؟