يتردد في العالم العربي هذه الأيام، أن أميركا في زمن الرئيس باراك أوباما لم تعد أميركا التي عرفتها المنطقة وتعودت عليها. تبدو أميركا أوباما الآن كأنها انقلبت على حلفائها العرب.
المصريون يتهمونها بأنها تدعم حركة «الإخوان المسلمين» ضد حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، وما يعتبرونه ثورة 30 تموز (يوليو) وما استكملته من ثورة 25 كانون الثاني (يناير). الخليجيون (أنا مضطر لهذا التوصيف اضطراراً، وقد أعود إليه)، بخاصة السعوديين منهم، يقولون أنها لم تعد معنية كثيراً بالتحالف معهم، ولا بما ينطوي عليه هذا التحالف من مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة ومشتركة. فهي أولاً غزت العراق، وسلّمت الحكم فيه لحلفاء إيران. وتحت ظل احتلالها وحكم هؤلاء الحلفاء لم تكتفِ أميركا جورج بوش الابن، ثم باراك أوباما تالياً، بتنامي نفوذ إيراني هناك، وإنما تعايشت معه، بل وتحالفت معه في ما تعتبره حربها على إرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). بعد ذلك وعندما قامت الثورة السورية، تخلّت واشنطن أوباما عن الشعب السوري تاركة إياه هدفاً يومياً للقتل والتهجير على يد النظام السوري وإيران بميليشياتها، ثم روسيا بسلاحها الجوي.
في سياق ذلك، لاحظ كثر أن موقف أوباما من الثورة بدأ بمطالبة الرئيس السوري، بشار الأسد، بالتنحي، ثم هدّد بتوجيه ضربة لقواته على خلفية استخدامها السلاح الكيماوي في صيف 2013، وتراجع عن تهديده لينتهي بتسليم سوريا للروس. منذ أسابيع فقط، أخذت إدارة أوباما تتفاوض مع الروس على الصيغة التي يجب أن ينتهي إليها هذا التسليم.
ما بين الغزو الأميركي للعراق ونتائجه المدمرة، وتسليم سوريا لروسيا، وقعت إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران في صيف 2015. في الأسبوع الماضي، تُوِّج التحوّل الأميركي بتمرير الكونغرس قراراً يسمح لعائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 بمقاضاة الأشخاص والجهات والدول الأجنبية للحصول على تعويضات منها لقاء دعمها إرهابيي تلك الأحداث. لم يرد إسم السعودية في هذا القرار، لكنها تبقى الهدف الرئيسي من ورائه. يقال أن الرئيس أوباما لا يتّفق مع الكونغرس في ذلك، وبالتالي سيمارس حقه في نقض القرار. لكن نظراً الى أن تمرير القرار تم بالإجماع في كلّ من مجلسي الشيوخ والنواب، فالأرجح أن يرفض الكونغرس نقض الرئيس، وأن يتم إقراره كقانون ملزم. في الأسبوع نفسه، وقعت إدارة أوباما اتفاقاً تاريخياً مع إسرائيل لتقديم مساعدات عسكرية لها غير مسبوقة بحجم 38 بليون دولار على مدى عشر سنوات تحصل بموجبه على أحدث ما أنتجته مصانع السلاح الأميركية، بما في ذلك مقاتلات «إف 35»، الأكثر تقدماً لهذا النوع من الطائرات.
حجم التحوّل الأميركي واضح هنا. لكنه تحوّل يخصّ العرب. أما إسرائيل فتبقى ثابتاً من ثوابت السياسة الأميركية. الأكثر وضوحاً بهذا المعنى هو موقف الرئيس أوباما وإدارته من الأحداث التي تعصف بالمنطقة لأكثر من خمس سنوات حتى الآن. وأكثر ما يتميز به موقف الرئيس أنه ينطوي على تغير لافت في سلبيته تجاه حلفاء أميركا، بخاصة السعودية ومصر. في الوقت ذاته، هو موقف مرتبك لأنه يفتقد سياسة خارجية واضحة المعالم والأهداف. يريد أوباما تغيراً وإصلاحات ثقافية وسياسية في دول هؤلاء الحلفاء. لكنه يتبع معهم سياسات مربكة لا يبدو أنها تصبّ في مصلحتهم أو مصلحة أميركا.
أنظر مثلاً إلى موقفه من سورية. هو لا يريد التدخل العسكري هناك. وهذا مفهوم تماماً بعد الفشل الذريع في العراق. لكنه يستخدم هذا كذريعة باتت مكشوفة للتغطية على ارتباك سياسي أمام تطورات الموقف هناك. فإذا كان لا يريد التدخل، وهذا مفهوم ومقدّر، إلا أنه كرئيس للدولة الأعظم لا يستطيع الاكتفاء بذلك من دون أن يأتي ببديل سياسي لا يتناقض مع موقفه المبدئي، وفي الوقت نفسه يتّفق مع الوزن السياسي والعسكري لهذه الدولة. وقوف أميركا على الحياد في مثل هذه الحالة هو موقف مؤثر بأكبر ما يكون التأثير. من هنا، فإن مأزق أوباما، ومأزق العالم معه، أنه توقّف في خياراته عند رفض التدخل، من دون أن يتمكن من عزل نفسه عن تطورات الأحداث في سورية. تفاقم القتل والتدمير هناك، وتفاقم عدم الاستقرار في المنطقة، وتوسعت دائرة الإرهاب متوجّة بـ «داعش»، ثم جاءت أكبر عملية تهجير منذ الحرب العالمية الثانية. لا يستطيع أوباما أن يهرب من المسؤولية عن ذلك كله. أميركا ليست نيكاراغوا، أو النيجر.
لم يرد الرئيس، وربما لم يتمكن من استخدام المفاوضات النووية مع إيران كورقة ضغط لفرض البديل السياسي الذي يراه في سورية. على العكس، بدا كأن هذه المفاوضات تضغط على إدارته وليس على إيران. وهذه مفارقة مربكة. وما يبدو على الأرض هو في الواقع ترجمة لما يقوله ويردده أوباما في أحاديثه وخطبه. في الثاني من آذار (مارس) 2014، قال الرئيس الأميركي التالي عن إيران الجمهورية الإسلامية: «ما أدركته منذ سنوات عن إيران أنها لاعب دولي غير مسؤول. تدعم الإرهاب، وتهدد جيرانها، وتموّل أعمالاً أدت إلى القتل في الدول المجاورة. إلى جانب ذلك، إيران استغلت وسعرت الانقسامات الطائفية في دول أخرى». في الحديث نفسه سئل أوباما: «أيهما أخطر، التطرف السني؟ أم التطرف الشيعي؟». يقول جيفري غولدبرغ الذي كان يحاور الرئيس: «كانت إجابته كاشفة.»، حيث قال: «ما سأقوله… أنك إذا نظرت إلى سلوك الإيرانيين ستجد أنهم استراتيجيون، ليسوا متهورين. لديهم رؤية عالمية، ويدركون مصالحهم، ويستجيبون للتكاليف والمنافع». (موقع بلومبرغ فيو، 2 مارس، 2014م). بعبارة أخرى، يعتبر أوباما أن القيادة الإيرانية عقلانية. في المكان نفسه، يقول: «هذا لا يعني أن النظام الذي تتربع على قمته هذه القيادة ليس ثيوقراطياً». هنا يبدو الالتباس في مفهوم أوباما للعقلانية. فعقلانية العصر الحديث لها إطار واحد، هو الدولة والقانون ومفهوم المواطنة. كيف يمكن أن تجتمع في هذه الحالة الثيوقراطية والعقلانية في رأس قيادة واحدة؟ هل من العقلانية تسعير الطائفية ونشر الميليشيات، كما يقول الرئيس، في العراق وسورية، ودعم نظام ديكتاتوري دموي في سورية؟ لا يمكن اتهام أوباما بالسذاجة أبداً. لكن هواه السياسي ورؤيته المرتبكة لمصالح أميركا يمنعانه من مواجهة تناقض رؤيته السياسية، وأن ما تقوم به إيران يقترب من حافة الانتحار اللاعقلاني.
آخر معالم ارتباك أوباما وإدارته، اتفاقه الأخيرمع روسيا لوقف النار في سورية ورفض إعلان تفاصيل الاتفاق مع مطالبة روسيا بذلك. هذا واضح. ما ليس واضحاً حتى الآن هو المآل الذي سيستقر عليه التحول الأميركي. وفي هذا مساحة واسعة للحديث والتفكير وإعادة النظر في أمور كثيرة ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعلاقات الرياض وواشنطن. بات من الواضح أن واشنطن لا تعتبر السعودية حليفاً، وإنما شريكاً تخضع العلاقة معه لظروف الوضعين الدولي والإقليمي وتقلباتهما. وعلى السعودية في هذه الحالة مراجعة رؤيتها للعلاقة مع واشنطن على هذا الأساس. فرئاسة أوباما وهي تقترب من نهايتها، قدمت درساً مفيداً عن العلاقة مع أميركا، وكيف يمكن هذه العلاقة أن تفاجئ الجميع بما ليس في حسبانهم. وليس من المصلحة الارتهان لمثل هذه التقلبات المفاجئة وغير المحسوبة.