كان العشاء بطيئاً ومسموماً. هذه مهمة الأصدقاء. يسكبون اليأس في صحنك، والحبر في روحك. تحدثوا عن المدينة كمن يتحدث عن جد مريض يتحشرج. وعن الخريطة ككذبة لم تعد تنطلي على أحد. وعن التعايش كفستان تمزق ويستحيل رتق نسيجه. قبل وليمة الزجاج المطحون استوقفني رجل في المقهى المجاور. قال إنه قرأ ما كتبته من برلين عن اللاجئين وما كابدوه في قوارب الموت واتهمني بالمبالغة. قال إن أوضاعهم أفضل بكثير من أوضاع مَنْ بقوا في أرضهم وأن عذاباتهم أقل. قال إنهم محظوظون لأنهم ألقوا بأنفسهم في حضن دولة لها حدود ومؤسسات وتعيش في ظل القانون. كشف أنه تمنى لو كان أولاده بينهم لأنهم قد لا يجدون مكاناً يوم يحين موعد رحيلهم. شدّد على أن منطقة الشرق الأوسط لا تصلح للسكن، وأن المواطن فيها يحسد اللاجئ في قارة أخرى.
أزور بيروت وأندم، ثم أكرر أخطائي. المدن إدمان وليس من عادة المدمن أن يتعلّم ويقلع. عدت إلى البيت بعد منتصف الليل. خرجتُ إلى الشرفة. تمنيتُ أن أدحض حجج الأصدقاء، وأن أثبت ضلوعهم في اليأس عن سابق تصور وتصميم. وأن أتهمهم بالمبالغة. فشلت. لازمني شعور بأن المدينة تموت ببطء ولو غابت المدافع. وحين تموت العاصمة تموت البلاد.
تذكرتُ المشاعر التي انتابتني قبل شهور، قبيل منتصف الليل في المنطقة الخضراء في بغداد. هاجمني يومها شعور بأن عاصمة الرشيد تسعل دماً، وبأن الموت يقضم أطرافها وروحها، وبأنها ليست المدينة التي قلنا إنها ستنهض إذا رحل المستبد. ما سمعته من رئيسَي الجمهورية والحكومة لم يكن كافياً لتبديد مخاوفي وانطباعي. تذهب أحياناً إلى مدينة فينتابك شعور بأنك جئت تودعها. ولا يحتاج الأمر إلى زيارة لدمشق ليكتشف المرء أن الموت البطيء يغتالها من الوريد إلى الوريد.
على الشرفة في بيروت التي تتراجع وتنحسر وتتدهور، تفكر في المنطقة بأسرها. ضرب الخراب الكبير بيت الشرق الأوسط. سقطت أعمدة الاستقرار. كان يفترض أن يتعايش في هذا البيت العرب والفرس والأتراك والأكراد. لا تحتاج علاقة العرب بالفرس حالياً إلى شرح. إنهم يتقاتلون في أكثر من مكان. الوضع أسوأ مما كان عليه في سنوات الحرب العراقية – الإيرانية. هكذا تسأل نفسك. أين حدود العرب مع الفرس؟ وإلى أين سيقود هذا الاستنزاف الكبير؟ وأيُّ الخرائط ستكون السباقة في السقوط؟ هذا لا يعني أبداً أن العلاقات التركية- العربية في أفضل حال. ففي «الربيع العربي» ساد اعتقاد بأن العرب يقيمون بين الفتوحات الإيرانية وأطماع السلطان التركي.
حاول المسؤولون الإيرانيون والأتراك على مدى سنوات إخفاء التنافس المحموم بين بلديهم. وحاولوا تحريك البيادق على الملاعب العربية، وتبادل الطعنات بالواسطة. العلاقات التركية – الكردية لا تحتاج إلى جهد للتفسير. تلاطف تركيا بعض الأكراد وتحارب بقسوة أكرادها. وتلاطف إيران بعض الأكراد وتلجم طموحات أكرادها. وبين اللاعبين الثلاثة يشعر العربي بأنه الأضعف وأنه اللاعب التائه. تدور المباريات الدموية على أرضه وتُسجَّل الأهداف بدمه.
انهارت أعمدة الاستقرار في الشرق الأوسط. المسألة أبعد من الفراغ الذي يتركه الانسحاب الأميركي من موقع القيادة… وأبعد من اندفاع الروسي لاسترداد موقع بلاده بذريعة محاربة «داعش»، وأبعد من «دولة البغدادي». إننا نسبح في مستنقع هائل. سقطت الحدود الدولية واخترقتها عصبيات موتورة وأعلام متناقضة. سقطت تجربة التعايش داخل الخرائط وبينها. سقطت الجيوش واتكأت على الميليشيات وحِرابها. ترقص البلدان عارية من المؤسسات الجامعة. سقطت الدساتير. اهترأ النسيج الوطني وساد منطق الطلاق. لا تسويات في الداخل ولا تفاهمات في الخارج… وفي الحالين استنزاف رهيب.
الخوف هو المواطن الأول في الشرق الأوسط. الأمن مهدّد. والخرائط في عهدة الرياح. والقدرات في فخ الاستنزاف. لا ينقذ الشرق الأوسط نفسه ولا يبدو العالم مهتماً بإنقاذه أو قادراً. إننا نسافر نحو الهاوية. موت بطيء يلتهم بيت الشرق الأوسط مبشِّراً بمزيد من الفقر والعنف والإرهاب والظلم والظلام.
الشرق الأوسط بيت رهيب تطايرت أعمدته. كلما زار الصحافي مدينة يشعر بأنه يودعها.