تعيش جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر واحدة من أكثر الأزمات صعوبة وحدّة وذلك منذ نشأتها قبل أكثر من ثمانين عاماً. منبع الأزمة ليست فقط محاولة القمع والاستئصال التي يقوم بها النظام الحالي في مصر بمساعدة حلفائه وداعميه وإنما أيضاً بسبب الانفصال المتزايد بين القيادة وقاعدة التنظيم. ولعلها المرة الأولى في تاريخ «الإخوان» التي يصل فيها حجم القمع والبطش إلى المستويات الدنيا من التنظيم بطريقة أثرت بشكل واضح في قدرة الجماعة على الرؤية والحركة. رغم أن تاريخ الجماعة لا يخلو من موجات للقمع والاضطهاد من قبل السلطة، إلا أن الأمر هذه المرة يتجاوز مجرد إضعافها وكسر شوكتها إلى محاولة تفكيكها وإنهاء وجودها السياسي والمجتمعي.
حتى الآن فإن معظم قيادات الصف الأول (مكتب الإرشاد) والصف الثاني (مجلس الشورى العام) والصف الثالث (رؤساء المكاتب الإدارية والمحافظات) إما في السجون أو في المهجر أو مختبئون، كما أن كثيراً من القيادات المعروفة سياسياً وشعبياً قد نالها أيضاً القمع والاعتقال والمطاردة كالنواب البرلمانيين وأعضاء الهيئة العليا لحزب «الحرية والعدالة». في حين لم تسلم نساء الجماعة أو «الأخوات» من التوقيف والسجن.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أى مدى أثرت الأزمة الحالية في كفاءة وطريقة عمل جماعة «الإخوان»؟ ومن يدير التنظيم خلال المرحلة الراهنة بخاصة في ظل وجود أكثر من ١٥ ألف معتقل من أعضاء الجماعة في السجون؟
بوجه عام يمكن القول إن قدرة «الإخوان» على وضع رؤية كلية للأزمة الراهنة وكيفية التعاطي معها بشكل استراتيجي طويل المدى قد تأثرت بشكل واضح، وهناك قدر لا تخطئه العين من الارتباك والتخبط بين القيادات حول كيفية الخروج من هذه الأزمة، ناهيك عن الانفصال الواضح بين قيادة الجماعة والقواعد الشبابية. ولربما كانت إحدى المشاكل الهيكلية في تنظيم «الإخوان» خلال العقدين الأخيرين هي سيطرة مجموعة صغيرة على عملية وضع الأهداف والرؤى والاستراتيجية الكبرى للجماعة من دون مشاركة حقيقية من بقية القيادات فضلاً عن الشباب.
أما في ما يخص «الجسد» أو الهيكل الأساسي للجماعة فيبدو أنه لا يزال يعمل بشكل روتيني وحركي سواء من حيث عقد الاجتماعات أو اللقاءات الأسبوعية أو من حيث الفاعليات والمشاركات اليومية في التظاهرات. صحيح أن ثمة صعوبات تواجه مثل هذه النشاطات وهناك حالة من الرصد والتعقب والمطاردة من أجهزة الأمن، لكن بوجه عام يمكن القول إن التنظيم لا يزال يحتفظ ببنيته وهيكله الأساسي بخاصة في الأرياف والمحافظات بعيداً من المدن الكبيرة. وهو ما يعكس مقداراً عالياً من التماسك والصمود في مواجهة الأزمة الراهنة.
ولفهم مقدرة «الإخوان» على الصمود والبقاء لا بد من الإشارة إلى نقاط أساسية عدة في ما يتعلق بطريقة عمل تنظيم «الإخوان». أولها أن التنظيم يتبنى دائماً استراتيجية ثنائية في العمل الحركي تقوم على أمرين هما مركزية القرار ولا مركزية التنفيذ. فالقرارات الكبرى أو الاستراتيجية العامة للجماعة والتي تتعلق بوضع الأهداف العامة للتنظيم يتم اتخاذها بشكل مركزي من طريق القيادات المسؤولة في التنظيم، وتكون فى الغالب نتيجة حسابات وتوازنات كثيرة مثل قرار المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها على سبيل المثال. أما عملية تنفيذ هذه القرارات فتترك فيها الحرية للمستويات الوسيطة والدنيا والتي تتمتع بقدرة عالية من اللامركزية في تنفيذ أهداف الجماعة وذلك تحت رقابة المكاتب الإدارية. وكما هو معلن فإن الهدف العام لـ «الإخوان» منذ خروجهم من السلطة هو العمل لإسقاط «انقلاب» ٣ يوليو، وهو ما يجعل كل أفراد الصف الإخواني منخرطين في كل النشاطات التي من شأنها تحقيق مثل هذا الهدف. وكثيراً ما يتحوّل الهدف إلى تكليف وواجب ديني يجب القيام به وإن لم يكن واقعياً أو كانت تكلفته البشرية والسياسية مرتفعة.
ثانياً: يتميز تنظيم «الإخوان» كما هو معروف بمقدار عالٍ من التراتبية والعلاقات المنضبطة أفقياً ورأسياً خصوصاً في المستويات الوسطى والقواعد. كما أن لدى الجماعة مقدرة عالية على عملية الإحلال والتبديل بين القيادات بحيث إذا تم اعتقال أحد القيادات فإنه يتم إحلال آخر مكانه. وهنا تستفيد الجماعة من عمليات التنشئة والتدريب السياسي التي تجرى لأعضاء الصف خلال المناسبات السياسية المختلفة كالانتخابات والتظاهرات…إلخ. ويبدو بشكل واضح أن قيادات الحركة الطالبية داخل «الإخوان» تقوم بدور مهم في التظاهرات التي تجرى داخل الجامعات المصرية. ناهيك بقيادتهم للحراك في الشارع وانخراطهم مع بعض الجماعات الشبابية والثورية الأخرى كـ «الألتراس» وغيرها.
وفي ظل غياب القيادات المؤثرة يبدو أن إدارة النشاط التنظيمي اليومي قد انتقلت إلى الصفين الرابع (نواب المكاتب الإدارية والمحافظات والذين اعتقل بعضهم) والخامس (شباب الجامعات وصغار الخريجين)، ويستفيد هؤلاء من عدم وجود سجلات بأسمائهم أو أنشطتهم لدى أجهزة الأمن بخاصة أن معظمهم قد انخرط في العمل السياسي والتنظيمي بشكل كبير بعد «انقلاب» ٣ يوليو وإخراج «الإخوان» من السلطة قبل أقل من عام.
ثالثاً: ان تنظيم «الإخوان» ليس مجرد حزب سياسي أو جماعة دينية، وإنما حركة اجتماعية لديها دوائر وشبكات وعلاقات متجذرة لا يمكن التقليل من أهميتها. وهذه الحركة تستثمر في العلاقات العائلية والشخصية والشبكات الاجتماعية من أجل ضمان أكبر مقدار من الدعم والمساندة مادياً ومعنوياً. وهو ما يوفر للجماعة حاضنة اجتماعية مهمة تفيدها ليس فقط في توفير ظهير سياسي مؤيد ومساند وإنما بالأساس في نجاح عملية الحشد والتعبئة التي تقوم بها الجماعة في تظاهراتها اليومية.
ورغم تماسك «الإخوان» وصمودهم إلا أن خبرة الشهور العشرة الماضية كشفت عن تزايد الفجوة بين القيادة وقواعد التنظيم، ما أدى إلى عدم اتساق في الرؤية والتحركات على الأرض. وقد نجم عن ذلك بعض المشاكل التنظيمية بين القيادات والقواعد. فعلى سبيل المثال عندما أشار الدكتور جمال حشمت إلى أن ثمة مبادرة قد تطرحها الجماعة تشمل التنازل عن مطلب عودة الرئيس محمد مرسي للسلطة، أدى ذلك إلى غضب شديد واستهجان لدى كثير من شباب الجماعة الذين رفضوا مبادرة حشمت قبل أن يتراجع عنها وينفيها. وهو الأمر نفسه الذي تكرر بعد البيان الذي أصدره الدكتور محمود حسين الأمين العام للجماعة وأكد فيه رفض الجماعة استخدام العنف ما أثار استياء بعض شباب الجماعة الذين رأوا البيان علامة ضعف في مواجهة السلطة.
كذلك تجدر الإشارة إلى أنه ربما للمرة الأولى التي تصبح قيادة التنظيم، على الأقل من الناحية الشكلية، من خارج مصر، وهو ما قد يعزز فكرة «إخوان الداخل وإخوان الخارج» التي كانت موجودة في حالات مشابهة مثل حركة «حماس» وحركة «النهضة» التونسية. ومع مرور الوقت، بخاصة إذا استمرت الأزمة، فربما يؤدي مثل هذا الانقسام وازدواجية القيادة إلى نوع من الانقسام التنظيمي أو ظهور مراكز جديدة للقوى داخل «الإخوان» تسعى إلى لعب دور مهم ومؤثر في حساب القيادات التاريخية للتنظيم، وهو ما قد يؤدي إلى تحوّلات عميقة قد تطاول الجماعة العجوز.
* كاتب وأكاديمي مصري.
بريد إليكتروني:
kalanani@jhu.edu