عند افتتاح مؤتمر «النساء في العالم» في نيويورك الأسبوع الماضي بقراءة ابنة ميريل ستريب كلمات شابة صغيرة في مخيم للاجئين السوريين في لبنان، اعتقدنا ان الرسالة انسانية لرفع العتب وأن حماية الشابة الطفلة بإخفاء وجهها تستحق التقدير. وعندما ألحقت تينا براون، رئيسة المؤتمر، تلك القراءة باستضافة شابتين سوريتين للتحدث عن الوضع الداخلي في سورية ليلتحق بهما ديفيد ميليباند، رئيس لجنة الإغاثة الدولية، قلنا انه لافت حقاً أن ينطلق المؤتمر النسائي العالمي بالمسألة السورية. ثم عندما علت المنصّة المغنية الشهيرة، رُسرانا، التي حملت علم أوكرانيا وغنّت نشيد بلادها، حملت الحضور على اضاءة الهواتف دعماً للضوء الذي بات يقترن بالانتفاضة الأوكرانية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ازداد الحضور ارتباطاً بما كان يحدث من منصة النساء في «لنكولن سنتر» في عقر دار مانهاتن. وحالما وصلت المعارضتان الروسيتان لإفراط بوتين بالقومية الوطنية لغاياته النرجسية وتطرفه القومي، بدت مغنيتا «بوسي رايوت» وهما عازمتان على توجيه صفعة أخرى الى بوتين، هذه المرة برعاية النساء من مختلف أقطار العالم. المؤتمر أعاد احياء الربيع العربي وأعاد اليه الاعتبار مذكّراً بقيمه الأساسية وأدوار المرأة العربية منه. تناول عبر الفن، وعبر استذكار المجازر في رواندا، وعبر دموع أم التحق ابنها بالإرهابيين، وعبر مشاركة أمثال هيلاري كلينتون والملكة رانيا وكريستين لاغارد وغيرهن، تناول ببساطة دور المرأة السياسي في صنع القرار. وهكذا، قفزت تينا براون كالنمرة الى ما يُدفَن عامة بحرص وخوف بين الطيات. تحدثت فوراً وعالياً عن موقع المرأة في السياسة بزخم وبلا اعتذار.
وهذا تماماً ما تفتقده المنطقة العربية: صراحة الطرح وجرأة الإقدام على كسر القيود التقليدية ضد صعود المرأة الى المواقع السياسية ونموها بما يتعدى المناصب والوظائف الإرضائية وإجراءات رفع العتب.
الادعاء ان التقاليد يجب أن تُحترم وأن التغيير يجب أن يكون بطيئاً وتدريجياً ليسا سوى تعذّر يسيء الى هدف انماء البلاد العربية. بديهية الواقع ان الإنماء والنمو والتطوير الاقتصادي في المنطقة العربية تتطلب بالتأكيد تشغيل نصف السكان – النساء.
إقصاء المرأة عن صنع القرار السياسي ليس مسألة هامشية. انه قرار اقصاء عن صياغة القوانين وحماية الدساتير، وهو قرار اتُخِذَ عمداً وليس سهواً. ومن ضمن أسبابه الأساسية هيمنة رجال الدين على موقع المرأة العربية في المجتمع المحلي كما في مصير البلاد.
أثناء مؤتمر «النساء في العالم» تواجدت الشابات العربيات وهن بالحجاب، وجوههن مطلية بالماكياج ولباس كثير منهن يظهر مفاتن الجسد. إذا كان قرارهن له علاقة بإيمان ديني، لا أحد يحق له أن يعاتب. أما إذا كنّ يلبسن الحجاب لتسويق أنفسهن، أو لأن الحجاب مرغوب به في المنتديات الدولية، أو لأنه وسيلة للإرضاء أو للإغراء، فليعذرننا. مرة أخرى، إذا كانت للحجاب علاقة بتقاليد يؤمنّ بها، فلهن الحق. أما إذا كان وسيلة للقول «هذا حقي، وهذه شخصيتي» حان لهؤلاء الشابات ان يعدن قليلاً الى تاريخ وأهداف خلع النساء الحجاب في القرن الماضي. عليهن ان يتوقفن عن النرجسية وتسويق الذات، فالحجاب رسالة تؤثر في صعود المرأة الى مواقع صنع القرار السياسي لأن أصحاب ذلك القرار من رجال الدين الذين اتخذوا قرار الإقصاء هم أحياناً من يستخدمون النقاب والحجاب لتأديب البنات وقمعهن.
بالطبع علينا الاحتفاء بأن حوالى ثلاثة أرباع منظمات المجتمع المدني في المنطقة العربية – كما يقال لنا – ترأسها نساء. هذا تطور مهم له قيمته وتأثيره الفعلي في تطوّر وتطوير المجتمعات العربية، بلا شك. انما المفقود هو خوض النساء في المنطقة العربية الحقل السياسي كمرشحات للنيابة والرئاسة والقضاء بالزخم المطلوب.
نساء أفغانستان – وهنّ بالتأكيد يعشن في مجتمع محافظ أكثر من المجتمعات العربية ويعشن في ظل املاءات «طالبان» – ادهشن العالم الأسبوع الماضي. خاضت 300 امرأة أفغانية الانتخابات التاريخية التي نقلت أفغانستان من حيث الدولة الفاشلة منتجع الإرهاب والتطرف وقمع النساء الى سمعة الدولة المتعافية التي تخوض معارك الديموقراطية. هنيئاً لنساء أفغانستان لأنهن تجرأن وقاومن وخضن المعركة الانتخابية فيما ظلال «طالبان» تلاحقهن وتتوعدهن.
النساء العربيات يعشن في بيئة أكثر تسامحاً وأكثر استعداداً للتغيير. بالتأكيد، ان تغييراً مهماً طرأ على مسيرة المرأة السعودية فأصبحت النساء اعضاء في مجلس الشورى. بالتأكيد، لعبت نساء تونس دوراً جذرياً في منع «الاخوان المسلمين» من الهيمنة على الدستور واعتبارهن «ملحقاً مكملاً» للذكر. وبكل تأكيد، ساهمت نساء مصر في اسقاط رئيسين في غضون سنة وهن في طليعة الاحتجاج في الميدان. ولا أحد ينفي مقاومة نساء سورية وهن يدفنّ الأحباب. وكي لا ننسى المرأة الفلسطينية والليبية واليمنية، فإن أدوارهن في الثورات لا يجوز القفز عليها.
لكن ما حدث عبر التاريخ الجديد، وما يحدث الآن، هو الإسراع الى اقصاء المرأة في صنع القرار السياسي بعد الثورات وأثناءها. المثال الصارخ الحالي هو تربّع رجال المعارضة السورية على صنع القرار السياسي التاريخي للبلاد بإبعاد مخجل للمرأة السورية عن المناصب ومواقع القرار.
المخجل أكثر هو وضع المرأة اللبنانية. تلك المرأة الليبرالية التي تنافس الغربيات في لباس التحرر وهي سجينة رجال الحكم وسجينة طموحاتها الضيقة.
النساء في البرلمان صحيح انهن زوجة وأخت وصلت الى النيابة لكنهن أثبتن انهن يتمتعن بكفاءات تفوق كفاءات البرلمانيين الرجال. بهية الحريري تتمتع بكامل كفاءات رئاسة الحكومة. نايلة معوض وستريدا جعجع لهما كل مقومات التربع على منصب رئاسة الجمهورية. في الطائفة الشيعية نساء فوق العادة كما في الطائفة الدرزية وبين الروم الأرثوذكس والأرمن وكل الطوائف الموجودة في لبنان.
جميعهن مُبعدات عن المناصب السياسية الكبرى بقرار من الرجال، الاقطاعيون منهم وأولئك الذين يفسّرون الدين كما يشاؤون. والمرأة في لبنان مقصّرة. معظم النساء يكتفين بإلحاقهن ملخصاً أو بتصنيفهن مكملاً. الشابات، وعدد لا يُستهان به من الأكبر سنّاً، بدأن التمرد على املاء الإقطاعيين ورجال الدين عبر المجتمع المدني. هذا لا يكفي. حان الوقت لإقحام أنفسهن على المسرح السياسي بمختلف قطاعاته وعبر مختلف المجالات.
فلا يجوز لهذا البلد أن يركن الى وجود سيدة واحدة في حكومته الحالية – علماً أن الحكومة السابقة كانت حكومة رجال بلا نساء. لا يجوز القبول بأقل من ثلث الأعضاء في البرلمان من العنصر النسائي. ورجاءً التوقف عن معارضة «الكوتا» بحجة ان المطلوب عدد أكبر وأن الكوتا تقلل من احترام حق المرأة بالمساواة. «الكوتا» لها هدف عملي هو تمكين المرأة من تبوّء المناصب بهذه النسبة كمدخل مضمون لحصولها على المساواة.
لم تصل امرأة عربية الى الرئاسة مع ان المرأة وصلت الى رئاسة الوزارة في كثير من الدول الإسلامية وغيرها من دول العالم الثالث. من الهند الى أفغانستان الى بنغلادش الى ليبيريا وتشيلي والفيليبين صعدت النساء الى مواقع صنع القرار السياسي بدعم من الرجال والنساء.
اليوم، ان عدداً من النساء يتبوّأن مناصب ذات نفوذ عالمي. مستشارة المانيا انغيلا ميركل أهم قائد في أوروبا وهي مفتاح امام التفاهم مع فلاديمير بوتين أو افتراق أوروبا عنه. كريستين لاغارد المواطنة الفرنسية، ترأس صندوق النقد الدولي وهي مفتاح آخر في مصير أوكرانيا وعلاقة فلاديمير بوتين بها. هيلاري كلينتون ليست سيدة أولى ووزيرة خارجية سابقة فحسب وإنما هي أبرز مرشح للرئاسة الأميركية مرة أخرى. جانيت يللن ترأس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. سوزان رايس تشغل منصب مستشار الأمن القومي في واشنطن. أهم داعية للحقوق السياسية وحقوق الإنسان في ميانمار امرأة اسمها أنغ سان سوتشي. والمرأة التي ترأس المفوضية السامية لحقوق الإنسان امرأة اسمها نافي بيليه.
قلّ ما وجدت نساء في مواقع السلطة في المنطقة العربية وإذا تواجدن أتى ذلك عبر موقعهن كزوجات. الشيخة موزة عقيلة أمير قطر السابق ووالدة الأمير الحالي لها تأثير سياسي بالتأكيد، انما هذا ليس منصباً مُنتخباً. عقيلات الملوك والأمراء والرؤساء يلعبن أدواراً ايجابية في شتى المجالات المحلية والإقليمية. الملكة رانيا العبدالله تجلس على بعض أهم مجالس ادارة الهيئات والمنظمات الدولية منها المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يتنافس كبار الرجال على الوصول اليه.
كثير من النساء والفتيات في المنطقة العربية قديرات بامتياز، لكنهن لا يجرؤن على كسر جدار اقصائهن عن السياسة. حان وقت تغيير هذه الأنماط وإدخال أفكار غير اعتيادية في رؤوس النساء والرجال على السواء وعلى سبيل المثال، لماذا لم يخطر على بال سمير جعجع ان يتقدم بترشيح النائبة ستريدا جعجع للرئاسة بدلاً من ترشيح نفسه؟ ولمَ لا يفكّر بذلك الآن؟ لماذا لا تدخل النساء مجال تشكيل الأحزاب السياسية بدلاً من القبوع في ظل املاءات رجال الأحزاب والزعماء السياسيين من كل الطوائف والأديان في لبنان؟
نساء ليبيا تم تهميشهن، كما يعتقد رجال الثورة التي انقلبت على أهدافها، لكن الليبيات لا يخضعن حتى وهنّ يواجهن التهديدات أمنياً لإقصائهن عن صنع القرار والمشاركة السياسية. انهن يراقبن ويقاومن ويعملن على استراتيجيات.
ومن مصر الى اليمن هناك انتفاضة نسائية عبر صنع الأفلام الوثائقية على نسق «الميدان» الذي أخرجته جيهان نجيم ورُشِّح للأوسكار. من لبنان تنطلق أعمال المخرجة الرائعة نادين لبكي لتسرد على طريقتها الخلل وتمارس السياسة غير المباشرة. هناك رئيسات تحرير صحف سياسية، مع انهن قليلات، وهناك المزيد من الصحافيات اللواتي يمارسن مهنة الصحافة السياسية بكفاءة لا تنقص عن كفاءة الرجال.
أريانا هافنغتن أسست الجريدة الإلكترونية، «هافنغتن بوست»، وأبدعت في التأثير والتعليق السياسي على المستوى الإعلامي. تينا براون كانت رئيسة تحرير «دايلي بيست» وهي اليوم أنشأت مؤسسة اعلامية تحمل اسمها. الأولى من أصل يوناني والثانية بريطانية لكنهما اليوم في صدارة القرار السياسي أميركياً، كما عالمياً.
«النساء في العالم» لم يكن تجمعاً نسائياً بل كان تجمعاً سياسياً للنساء. صدرت عنه صرخة الجرأة والصراحة. تخلله الاحتفاء بفلسطينية، نهى الخطيب واسرائيلية ليرون بيليغ هادومي، اللتين تعملان على مقاربة جديدة لصنع السلام. لامت أم نفسها لأنها لم تلتقط مؤشرات انزلاق ابنها الى الإرهاب. بالطبع كان هناك أكثر من احتفاء بإبداعات واختراعات وكان هناك الكثير من الغناء والعناق.
انما ما ميّز «النساء في العالم» انه سجّل انطلاقة سياسية جديدة نوعياً جعلت كثيرين من رجال السلطة في مختلف بقاع العالم يشعرون انهم تحت المراقبة والمحاسبة والمنافسة بامتياز.