أنفقنا اليومين الماضيين في مصر ونحن نلعن الظلام، لكننا لم نلحظ ولم نسمع صوتاً حاول أن يضيء الشموع في مواجهته، إذ لم يخل منبر إعلامي أو تصريح صحفي من هجاء الإرهاب وسنينه والدعوة إلى سحقه وبتر أصابعه، وتلك أهداف لا يختلف عليها أحد، لكن الخلاف يمكن أن يطل في التفاصيل والوسائل. وما لاحظته على خطاب اليومين الأخيرين أنه ظل محصوراً في حدود النقمة والغضب والتعويل على قدرة الأمن على الحسم والبتر. وإذا ما استخدمنا أدوات تحليل الخطاب فسوف نكتشف أننا في مواجهة الإرهاب نستسلم للانفعال ونتوسل بالعضلات. ولست أرى غضاضة في الانفعال أو اللجوء إلى الحسم والردع، حيث أعتبر ذلك أمراً طبيعياً بل واجب، ولكن تحفظي ينصب على الاكتفاء بهما، وإغلاق الأبواب دون استخدام العقل أو تغييب السياسة.
لقد كان مثيراً للدهشة ــ ومحزنا في الوقت ذاته ــ أن أغلب المتحدثين في وسائل الإعلام، إن لم يكن كلهم، تحولوا إلى رجال أمن. منهم من اختار أن يمارس دور المرشد ومنهم من تبنى لغة المزايدة والتحريض، ومنهم من تقمص شخصية الخبير الأمني، ومن تحدث في القانون آثر أن يصطف إلى جانب نيابة وقضاء أمن الدولة. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن المتحدث العسكري لم يكن بعيداً عن هؤلاء، إذ أطلق الإشارة الأولى التي تلقفها الآخرون، حين وجه اتهامه إلى الإخوان بعد دقائق معدودة من ارتكاب الجريمة. ورغم أن أنصار بيت المقدس أعلنوا مسؤوليتهم عن الحادث في وقت لاحق، إلا أن الأجواء المخيمة والتعبئة الإعلامية المضادة كانت أكثر ترحيباً بالادعاء الذي أطلقه المتحدث المذكور في وقت مبكر من الصباح. وعلى أساسه تمت المحاكمة طوال النهار. وانتهى الأمر بخروج بعض المظاهرات بعد الظهر داعية إلى إعدام الإخوان، وفي التمهيد لذلك قام البعض بإشعال الحريق في سيارة بـ «بني سويف» مملوكة لأسرة مرشد الإخوان المسلمين.
المدهش أن ذلك كله تم قبل أن يفتح ملف التحقيق في الموضوع، حتى بدا وكأنه دعوة ضمنية لصرف الانتباه عن مخططات جماعة أنصار بيت المقدس، لكي تواصل أنشطتها الإرهابية في بر مصر!، وهو نهج أزعم أنه قد يخدم سياسة المرحلة، لكنه لا يخدم العدالة ولا يسهم في تحقيق الأمن.
إن أسهل شيء أن تلعن الظلام، خصوصا إذا ما توافق ذلك مع اتجاهات الريح السياسية. لكن إضاءة الشموع هي المشكلة، والإضاءة التي أعنيها لها مستويان، مستوى تحري مصدر الظلام ومظانه، ومستوى تبديده حتى ينحسر تماماً، ولا يبقى له أثر. وذلك تقدير يستلهم الفكرة التي تقول بأن فهم المشكلة نصف الطريق إلى حلها، الأمر الذي يعني أننا لن نستطيع أن نقهر الظلام إلا إذا تعرفنا على مصادره.
وإذا اتفقنا على ذلك فإن تحقيق المراد يستدعي الأسئلة التالية:
< من هم الفاعلون؟ هل هم الإخوان حقاً، أم هو تنظيم أنصار بيت المقدس، أم هناك جهة أو جهات أخرى ضالعة في العملية؟ وهل هناك صلة بين تلك الجهات المختلفة، أم أن كل جهة تعمل بمفردها، ولحسابها الخاص، وهل هناك أي نوع من الصلة أو التنسيق بين الإخوان وبين تلك الجهات؟
< هل الذين ارتكبوا جريمة قتل الجنود الستة هم أنفسهم الذين فجروا مبنى مديرية أمن القاهرة، ومبنى المخابرات العامة في أنشاص، وأطلقوا الرصاص على حافلة الجنود في القاهرة؟ وهل لهؤلاء علاقة بقتل الجنود المصريين في سيناء؟ هل هذا التنظيم واحد أم تنظيمات متعددة؟
< إذا كان المتواتر أن عمليات التعذيب والتنكيل تتم في أقسام الشرطة والسجون والمعسكرات التابعة لوزارة الداخلية، فلماذا استهداف عناصر الجيش وكمائنه، وهل لذلك الاستهداف علاقة بالثأر الذي خلفته عمليات المداهمة والتطهير التي تقوم بها القوات المسلحة في سيناء؟
< أين حصيلة المعلومات ودور الاستطلاع الذي يفترض أن تكون أجهزة الاستخبارات قد قامت به خلال الأشهر الثمانية الماضية على الأقل؟ ولماذا لم تنجح جهود اختراق تلك المجموعات بما يمكن من إجهاض العمليات الإرهابية قبل وقوعها؟
< ما هو الجهد الذي بذل لتأمين نقاط تمركز الجنود وحمايتهم من المفاجآت التي تمكن العناصر الإرهابية من تصفيتهم؟ وهل هناك قصور في عملية التأمين؟ وهل يتم اختيار الجنود المكلفين بالكمائن من خلال مواصفات معينة في البنية القتالية والتدريب، أم أنهم يوزعون حيثما اتفق، بغير تأهيل أو تدريب؟
< هل هناك مجال للتفكير السياسي في الموضوع، أم أن الملف سوف يترك برمته للمؤسسة الأمنية؟ وهل يمكن أن تعد فكرة اللجنة العليا للمصالحة الوطنية التي دعت إليها خارطة الطريق في الثالث من يوليو الماضي أحد الأبواب المرشحة لإشراك السياسة في مواجهة الأزمة؟
أدري أن هناك من يصمُّون آذانهم عن أي تفكير في محاولات تقصي جذور الأزمة وتحديد أصل الداء بما يفتح الأبواب وحل الإشكال دون الاكتفاء بالحلول الأمنية والأساليب القمعية. وهؤلاء تزعجهم وتثير أعصابهم مصطلحات الوئام المدني والمصالحة الوطنية والسلم الأهلي. إلا أننا بعد خبرة الأشهر الثمانية التي خلت صرنا أشد حاجة إلى أن نفتح الأبواب ونمد الجسور مع الذين يسعون إلى إطفاء الحرائق ودفع مسيرة الوطن إلى الأمام، خصوصا بعدما أدركنا أن رقعة الحرائق تتسع يوما بعد يوم، وأن الضحية في هذه الحالة ليست «الجماعة» وحدها، ولكنها أمن الوطن واستقراره وأحلام ناسه الذين هم أكبر وأبقى من المتصارعين.