عندما تتحول تدريجيا سلوكيات المعاملات الناظمة لشتى مناحي حياتنا الى الغش والغبن فإننا نقترب اكثر من فوضى دون رادع حقيقي… نفس السلعة تباع في سوبر ماركت ( صغيرة او كبيرة) باسعار متفاوتة تصل الى الضعفين، وعندما تستقل التاكسي يبادرك عند الوصول بالقول انه لايمتلك عملة معدنية (الفراطة)، ويناشدك المسامحة، وطبعا تذعن لذلك الطلب، وفي الشقق الفندقية يحتفظ المسؤول عن ادارة تلك الشقق بعقد الايجار المؤقت ويخصم من المستأجر عنوة مبلغا لم يبلغ عنه المستأجر مسبقا، ذلك بهدف التهرب من الضريبة، ومحلات لبيع قطع غيار السيارات لاتحرر الفاتورة تهربا من دفع الضريبة…وهناك عشرات من المعاملات تؤدي الى الغش وغبن المستهلك والخزينة.
اتساع نطاق هذا التغول سببه الرئيسي مواصلة الحكومات كجهاز تنفيذي في عدم الافصاح عن المعلومات، وتتمسك بالمعرفة والعلم والاخلاص للوطن، لذلك مازالت معادلة تسعير المحروقات لايمكن مناقشتها من اي كان، وكذلك فاتورة الطاقة الكهربائية، والمبالغة في العمولات والخصومات التي تمارسها البنوك تجاه المتعاملين معها، والحجوزات التحفظية على اموال العباد تطال كافة موجوداتهم علما بان قيمة القضية على سبيل المثال لاتتجاوز في اغلب القضايا 5% من نسبة الموجودات المحجوزة، عندها تتحول العامة الى سلوك مهين… تنهش بعضها البعض دون وقف لهذه الممارسات.
الدول المتقدمة بنت قوانين وتشريعات تنظم العلاقات بين الناس والمؤسسات من جهة، وبين القطاع الخاص والحكومة من جهة اخرى، ويحرص جميع الاطراف على الالتزام بدفع ما يجب عليه، ويطالب بحقه بدون الحاح، اما في الاردن فان الدستور الاردني وتعديلاته من افضل الدساتير، والقوانين كافية الا ان التطبيقات في واد والتشريعات في واد آخر، وهنا يجب علينا ان نعيد النظر في امور حياتنا بعد ان وصلنا الى مرحلة شديدة الصعوبة، واختلط الحابل بالنابل بصورة ممنهجة، وحجبت السياسات والبرامج والقرارات ومعها ممارسات العامة البصر وتاهت معها البصيرة.
هذه الصورة المؤلمة استشرت خلال السنوات القليلة الماضية، وادت رياح السموم الناجمة عن ما يسمى بـ» الربيع العربي» الى تحويل المطالب المالية وتحسين مستويات المعيشة الى اعتصامات رائدها الردح والقدح والذم، وتعطيل الاعمال، وفي نفس الوقت استمرت السياسات الحكومية في فرض قرارات غير منصفة، لذلك ليس من باب المصادفة ان نجد تباطؤا في تنفيذ المشاريع وتوقف بعضها، وارتفاع تكاليف الحياة، وانخفاض قدرة المواطنين على تلبية احتياجاتهم.
ان اعادة تنظيم حياتنا يكمن في البدء باحترام القوانين، وحماية حقوق العامة والخاصة في ابسط صورها، واعتماد المكاشفة والمصداقية في السياسات والقرارات بخاصة تلك التي تتصل بحياة المواطنين، عندها نكون قد وضعنا العربة في الاتجاه الصحيح، وبدون ذلك قد نغرق في فوضى تعيدنا الى الوراء سنوات وعقود من الصعب التعافي منها، وهذا اخطر ما قد نواجهه.