كان الرئيس جلال طالباني واثقاً أن الحرب الأميركية – الإيرانية لن تقع لأن الفريقين لا يريدان الانزلاق إليها. شاهدت إيران خامنئي ما حل بصدام حسين ونظامه حين انقضت عليه الآلة العسكرية الأميركية. القيادة الإيرانية ليست انتحارية ولن تجازف بكل ما بنته. ثم أن هتاف «الموت لأميركا» في شوارع طهران شيء وحسابات القيادة شيء آخر. والتحرش المدروس بأميركا لانتزاع اعتراف منها شيء والمجازفة بحرب معها شيء آخر.
ظل أميركا ثقيل في الشرق الأوسط وصارم. كلما حاولت دولة الانقلاب على موازين القوى وانتزاع الزعامة في الإقليم تصطدم بالظل الأميركي. يعرف الانقلابيون أنهم لا يستطيعون طرد أميركا من الإقليم. لهذا يتشاجرون معها ويجمعون الأوراق استعداداً للتفاوض وعلى أمل الحصول على اعتراف أميركي بدورهم الجديد وكل انقلابي يحاول أن يكون الشريك الأكبر لأميركا.
طال النقاش مع الرئيس طالباني في قصر الشعب في دمشق في كانون الثاني (يناير) 2007 واتسع صدره لأكثر من لقاء. كان طالباني زار إيران قبل أسابيع والتقى المرشد والرئيس وآخرين فاعلين. سألته عن حصيلة لقاءاته في ما يتعلق بالعلاقات بين طهران وواشنطن فقال إنه تبلغ ممن التقاهم موقفاً واضحاً مفاده «فلتعلن أميركا أنها مستعدة ونحن جاهزون للتفاهم معها من أفغانستان إلى لبنان».
شعر طالباني أنني استقبلت الكلام بشيء من الاستغراب فقال: اقترحت على الإيرانيين عقد اجتماع مع السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد. وافقت واشنطن ثم وافقت طهران مشترطة أن يكون اللقاء سرياً. حضر خليل زاد إلى المكان المقرر في دوكان في كردستان قبل 24 ساعة لكن الإيرانيين امتنعوا عن الحضور بسبب إفشاء وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الخبر أمام زعماء الكونغرس. لم يرفضوا اللقاء لكنهم رفضوا تسربه إلى الإعلام.
لم تكن اللقاءات الأميركية – الإيرانية مستحيلة على غرار ما كان يتردد في الإعلام. في 2003 وقبل الغزو الأميركي للعراق شهدت جنيف اتصالات أميركية – إيرانية حول ما سيشهده العراق. توقفت هذه الاتصالات بعد سقوط صدام بسبب امتناع إيران عن تسليم عناصر من «القاعدة» قالت واشنطن إنهم يقيمون في إيران. حدث أيضاً نوع من الاتصالات وتسريب المعلومات يتعلق بأفغانستان.
ثمة مشاهد ينساها أهل المنطقة بفعل تدافع الأحداث. «في سنة 2003 وبعد تأسيس مجلس الحكم، وكان بريمر لا يزال الآمر الناهي، أرسلت إيران إلى بغداد وفداً من وزارة الخارجية و «الحرس الثوري» لتهنئة المجلس، الذي رسم بالحبر الأميركي ومن دون تجاهل «أصدقاء إيران».
مشهد آخر. امتنع الزعماء العرب عن زيارة العراق المحتل. لكن طائرة هبطت في مطار بغداد في 2007 وكانت تقل زائراً صعباً هو الرئيس محمود أحمدي نجاد. شاهد الزائر الدبابات الأميركية وسأل فقيل له إنها مجرد قاعدة من قواعد كثيرة لـ 170 ألف جندي ينتشرون في العراق. اتفقت السلطات العراقية مع نقاط التفتيش الأميركية على عدم توقيف موكب الرئيس الإيراني. لكن نقطة أوقفته فجأة بعد خروجه من المنطقة الخضراء. خاف العراقيون وسارعوا إلى الاستفسار. قال الضابط الأميركي إن جنوده يريدون التقاط صورة تذكارية مع الرئيس الزائر الذي ضحك عندما شرحوا له السبب.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي قصدت منزل الرئيس طالباني في السليمانية. كان شديد القلق من التطورات السورية. كان قلقاً على سورية وجيرانها بسبب تصاعد المواجهات المذهبية. قال إن إيران لا تستطيع غسل يديها من مصير نظام الرئيس بشار الأسد. خسارتها لسورية تفقدها أبرز أوراقها للتفاوض مع أميركا. تضرب دورها في الإقليم والدور أهم عندها من القنبلة. طرحت عليه السؤال نفسه الذي طرحته قبل خمسة أعوام. رد مستبعداً الحرب. قال إنه سمع من إدارة أوباما رغبة أكيدة في تسوية مع طهران. وإنه سمع من الإيرانيين أنهم على استعدادهم لمفاوضات واسعة مع أميركا إذا كانت مستعدة للاعتراف بالحقائق الجديدة في المنطقة.
ذكرتني المحادثة الهاتفية بين باراك أوباما وحسن روحاني بكلام طالباني شفاه الله. لن تكون الرحلة سهلة وقد تتأخر. مطلب إيران الفعلي هو أن تكون الشريك الأكبر لـ «الشيطان الأكبر» في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى لبنان. هذه المسألة ليست بسيطة. إيران لا تنتمي أصلاً إلى «الأكثرية» في المنطقة. وبعد الأزمة المفتوحة في سورية وتصاعد النزاع المذهبي في الإقليم وانخراط «محور الممانعة» فيه خسرت بعض الأوراق الإيرانية شيئاً من وهجها وقوتها. استوقفني حزن طالباني على سورية. خسرت استقرارها وخسرت أوراقها. كانت لاعباً وتحولت ملعباً.
غسان شربل/الشريك الأكبر لـ«الشيطان الأكبر»
10
المقالة السابقة