قد تكون البداية من لبنان. فالتغيير الحكومي مؤشر أول الى تغيير اقليمي في اتجاه ادارة مرحلة ما بعد نظام الأسد. هذا ما يمكن استنتاجه من عودة الدور السعودي الى لبنان، وهو ثمرة عمل واتصالات مباشرة بين أجهزة، وغير مباشرة بين حكومات. بديهي أن تأييد «حزب الله» تكليف تمّام سلام، وموافقته على رئيس وزراء لم يختره، وإسكاته اعتراضات حليفه ميشال عون، تمّت بإيعاز من إيران. لا يعني ذلك أن طهران باتت تسلّم بأن نظام الأسد سيسقط قريباً جداً، أو أنها ستساعد على إسقاطه، بل يدلّ الى أنها تسعى الى تقليص أضرار سقوطه على مصالحها. لذا فهي تبحث عن مكان لها في الصفقة – التسوية.
مع تلاشي نفوذ النظام السوري في لبنان، كان البديل أن ترث إيران «الوصاية» وتتولاّها وأن توكل ادارة البلد الى «حزب الله». لعل غطرسة القوة كانت لتغريها بالمغامرة، لكن البراغماتية أجبرتها على الاعتراف بالواقع. والأهم أنها استنتجت من تفاهمات الولايات المتحدة وروسيا في شأن سورية أن نقل الصراع الى الدول المجاورة ممنوع وغير وارد، وبالتالي فإنها مدعوة للانضباط خصوصاً في لبنان، وللتخلّي عن مشاريع التأزيم والتخريب هنا وهناك، أولاً لأن هذا لن يساعد حليفها السوري الذي فشل في مساعدة نفسه، وثانياً لأنه يقصيها عما يجري من ترتيبات للمرحلة المقبلة.
يتقاطع الحدث اللبناني مع سيناريو آخر مشابه يعدّ على نار هادئة، بعيداً من الأضواء، بالنسبة الى البحرين. فمن جهة هناك «حوار وطني» منذ التاسع من شباط (فبراير) الماضي، وكانت المعارضة الشيعية علّقت موافقتها النهائية على المشاركة فيه الى ما بعد عودة موفديها من زيارة مفاجئة لموسكو. ومن جهة اخرى هناك قناة خلفية تتفاوض على صيغة حل يُفترض أن يرضي جميع الأطراف، ويُعتبر بعض القرارات الرئيسية التي اتخذت أخيراً من مقدّمات هذا الحل وارهاصاته. وكما في لبنان، كذلك في البحرين، لن تكون تهدئة داخلية إلا اذا اعترفت إيران بحقائق البلدين وتركت ضمان الاستقرار للأطراف أنفسهم. ويذهب بعض المصادر الى حدّ التكهن بأن مناخ التهدئة يمكن أن ينعكس أيضاً على العراق، اذا نجح نوري المالكي في عقلنة ادارته للأزمة. وكان لافتاً أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري دعا أنقرة الى تصحيح علاقتها ببغداد، وكأنه يدفع في المسار نفسه.
ينبغي التحذير هنا من المبالغة في تحميل ما يجري أكثر مما يحتمل. فالأمر لا يمثل اتجاهاً الى ولادة وفاق اقليمي مباغت، بل إنه فقط استجابة لمتطلبات اللحظة الراهنة اذا وجدت الأطراف النافذة أن لديها مصلحة في اتّباع بعض المرونة والواقعية من دون أن تتكلّف أي تنازلات جوهرية. لذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن لبنان تخلّص من «وصاية سورية – إيرانية» تفككت بسقوط ضلعها السوري، ليستعيض عنها بـ «رعاية سعودية – إيرانية» وكأن الدولتين توصلتا الى تفاهم. لا، انه مجرد تعايش بين نفوذين يقي السنّة والشيعة معاً مخاطر تهوّر سلاح «حزب الله» ومغامراته الخارجية، ولا شيء يضمنه سوى حسن ادارة الاطراف الداخلية للعبة. وفي البحرين أيضاً لا شراكة بين النفوذين، بل حتى ولا تعايش، وانما توافق ضمني غير مباشر على أن التهدئة يمكن أن تكون مجدية وقد تفسح في المجال لوضع اصلاحات شجاعة ومتقدمة على السكّة، بعيداً من التوتير والتحديات. ولعل ملاحظة أحد المصادر المطلعة جديرة بالاهتمام اذ قال إن «الإشارات الايجابية المفاجئة» من جانب طهران تذكّره، مع اختلاف الظروف، بالمرحلة التي جاءت بمحمد خاتمي الى الرئاسة!
جاءت بلورة هذا المناخ المستجد في اطار تهيئة الظروف الخارجية المناسبة لـ «الحل السياسي» في سورية. كانت زيارة الرئيس الأميركي لاسرائيل حاسمة في نقطة واحدة على الأقل: نظام الأسد لم يعد قابلاً للانقاذ ولا صالحاً للاعتماد عليه كما في السابق، بل ان استمراره منذ عام حتى الآن جلب مخاطر لم تكن متصوّرة من قبل، وأهمها أن تنظيم «القاعدة» اقترب كثيراً من اسرائيل، ومتى صار على الحدود يسهل عليه زرع خلايا في الداخل وايقاظ خلاياه النائمة…
نتيجة لذلك، وللمعطيات الكـثيرة العربية والأوروبية المتجمعة منـذ عامين، صــار بـاراك اوبـاما أكثر اقتناعاً بضرورة التدخل لإنهـاء الأزمــة الـسـورية، لكن التـدخل من دون ارسال جنود وبالتـفاهم مع روسيا للعمل على مـسارين: أولاً، بالـتأثير في مجرى القتال بتسليح «الجيـش الحرّ» ومحاولة تأمين الجنوب وجعله «منطقة آمنة» بتنشيط الدور الاردني والسعي الى ضبط الفوضى في الشمال بتفعيل الدور التركي والاعتماد على «الحكومة الموقتة» لائتلاف المعارضة للتفاعل مع الادارات المحلية. وبالتوازي، ثانياً، الإعداد لـ «حل سياسي» متوازن لا يقصي أحداً وانضاجه تمهيداً لفرضه على الجميع. وفي هذه المرحلة لا بدّ من العودة الى مجلس الأمن بعد ضمان موافقة روسيا، لأن أي حل سيتطلب «قوات دولية»، وكذلك العودة الى مهمة الاخضر الابراهيمي.
لم تحلّ بعد عقدة رحيل الأسد أو بقائه، لكن الحديث يبدو راهناً كأنه يتجاوزها. فالمشكلة ليست في اشتراط المعارضة رحيله، وهذا حقّها الطبيعي بعد كل هذا القتل الذي ارتكبه، بل هي في عدم توفّر ارادة دولية للحل سواء بسبب الجشع الروسي أو «الممانعتين» الاسرائيلية والإيرانية أو التردد الأميركي والأوروبي. لكن الجميع بلغ الآن اقتناعاً بأن الأزمة طالت أكثر مما ينبغي، وأنها اذا استمرّت ستلد أزمات اخرى. ثم أن واشنطن بدأت تعطي اشارات الى أنها في صدد تركيز خياراتها. كما أن موسكو وواشنطن اللتين وسّعتا اتصالاتهما بعسكريين منشقّين من رتب عالية لا يزالون على اتصال مع ضباط كبار يعملون مع النظام، تمكّنتا من رصد مجموعة من هؤلاء ترغب في التعاون اذا كانت هناك «تسوية» لكنها تريد «ضمانات». والحديث هنا عن مئات من الصفين الأول والثاني الذين أخرجوا عائلاتهم الى لبنان والامارات، أو الى قبرص حيث شكا كثيرون منهم من أنهم تضرروا بالأزمة المالية العاصفة بالجزيرة. والأسد مضطر لـ «التعاون» وتسهيل الحل سواء بقي حتى نهاية رئاسته أو اختار أن يرحل، لأنه في الحالين سيحتاج مثل ضباطه الى «ضمانات».
يمكن فهم مـناخ التـحوّل الحـالي في المـواقـف بأنه النتيـجة الطبـيعية لـسـياسـة «تغـيير الحـسابات» التي أشارت اليها واشنطن، سواء للاسد أو حلفائه، أو حتى لخصومه، خصوصاً أن الرقم الصعب في المعادلة يرتكز أساساً الى ما تنجزه المعارضة على الأرض. وعـشية اللقاءات التي برمجها البيت الابيض، ويلاحظ أنها لا تشمل مصر، أصبح معلوماً أن ثمة تفاهماً أميركياً – سعودياً قد انجز بخصوص التعامل مع الملف السوري سواء في الجانبين العسكري والـسـياسي أو في تهيئة الظروف الاقليمية لنهاية الأزمة وتداعياتها. ولعل ما حرّك الاتصالات للتوصل الى هذا المناخ الجديد أن الأميركيين وحلفاءهم الخليجيين ينظرون بشيء من الريبة الى الطريقة التي يتم بها «التـطبيع» بين مصر وإيران، اذ يتصرف الإيرانـيون وكـأنهم انـجزوا محـوراً ثلاثياً (طهران – القاهـرة – غزة) بديلاً من المحور الآفل (طهران – دمـشق – بيروت/ حزب الله). ثم إن تطوّرات الداخل باتت توجب التحوّط من دور تنظيم «القاعدة» ومن مشكلة «العائدين من الشام» على غرار العائدين سابقاً من افغانستان وسواها. يضاف الى ذلك أن روسيا وُضعت أمام مسؤوليتها لحمل إيران على الانضباط والحدّ من التخريب الذي تتعمده بتدخلها في دول الخليج، اذا كانتا تريدان الحفاظ على حد أدنى من مصالحـهما في سورية ما بعد الأسد.
* كاتب وصحافي لبناني