عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب –
حين زرته في مكتبه بعد تعيينه بأيام .. لم يشأ أن يتحدث عن شيء وخلته يقول أنني أنذرت أن لا أكلم صحفيا ، فقد كانت له تجربة مع الصحافة حين كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للتربية والتعليم أدرك فيها أن الجرعة الزائدة من الاعلام قد يكون ضررها أكثر من الناقصة، ولذا أراد الدكتور محمد ذنيبات أن يلوذ بالصمت وأن يبدأ عملا نوعيا لإعادة “الدوزان” لشركة كانت أمل الأردنيين وتحولت إلى بقرة وقعت فكثرت عليها السكاكين وأصبح الكثيرون خبراء في الفوسفات وفي التسويق فكانت الفتاوى تكال بالمجان وعلى الهواء وحيث أراد أن يتكلم أحد في الاقتصاد.
قال لي تعود بعد سنة.. فقلت ومن يضمن بقاءك ، فابتسم و قال: “أرجو أ ان أنجح وإلا أعود إلى البيت”.
غبت طويلا عن اللقاء ولكني بقيت حاضرا في المتابعة، كانت أخبار الانجازات تتسرب بين الحين وآخر وكنت أرى المدير العام الدكتور شفيق الأشقر تنفرج أساريره وتتراجع كشرته وينقشع صمته بالتدريج..!!
لا مجال للمواعيد خارج إطار العمل.. كان الرهان الذي عقده الدكتور محمد ذنيبات على نفسه وإدارته والعاملين معه مكلفا وصعبا ولكنه مضى.. لم يسمع القيل والقال ولم يلتفت إلى الوراء ولم تأخذه عزة رغبته في النجاح بإثم أن ينال من الآخرين… كان عف اللسان ولكنه لم يسكت عن باطل وفساد فحرك الملفات بصورة تضمن عدم السكوت عن الحق وأبقى أسرار الناس بعيدة عن التداول الرخيص ولكن برسم وضع الجهة المعنية في الصورة!!.
نظر إلى الجسم المترهل في الشركة ووضع برنامج للياقة، والذين سمعوه في الأيام الأولى يتحدث عن سعة الشاحنة وارتفاعها وحتى كلفة النقلة الواحدة والدخول إلى التفاصيل التي كان يثقف نفسها بها أشفقوا عليه وقالوا: سيغرق في التفاصيل وسيذهب جهده هباء كما تذرو الريح تراب الفوسفات المهمل بمئات الآف الأطنان”
كان يريد أن يبدأ من تحت الجذور.. من التفاصيل قبل أن يصعد للمسائلة، فلو أنه بدأ من فوق لأغرقوه بالفتاوى والتبريرات وخلق الذرائع والعقبات، وتعالموا عليه بمصطلحات لم يكن يعرفها وبإشارات كان يجري الاتفاق عليها ومسلمات ما أنزل الله بها من سلطان ، كانت تتسرب من خلالها الأموال بعيدا عن ضغط النفقات وكأن الحالة كمن يصب الماء في السنسلة!!
لاحظ أن هناك كلفا عالية لكثير من الخدمات لا تناقش وأن هناك رغم الدفع الكثير خدمة متدنية .. ولاحظ التذمر يقتات على ما تبقى من إرادة العاملين في المواقع الوسطى والدنيا من الشركة ولاحظ أنه كلما تعطل شيء ترك وجرى البحث عن جديد مكلف. فقطعة غيار بألف دينار كانت تعطل غارفة بالمليون كانت جبال الفوسفات المصنوعة من تراكم الفوسفات المكرر بنسب متدنية ترتفع وتبقى في السجلات المشطوبة ليدرك بالسؤال اللاحق والمعرفة والمعاينة الميدانية أن هذه الجبال هي فلوس وأن هذا التراب فيه نسبة لا تقل عن 15% وقيل أكثر من الفوسفات وأن إعادة التعدين له بسهولة قد تدر ملايين الدنانير .
كان موزعا بين ضغط النفقات التي كان يرى فيها تسيبا وبين زيادة الانتاج الذي أحس أن في دواليبه تعطيل وتبرير وسوء إدارة.. كان يدرك بحكم خبرته الإدارية والاقتصادية أن السوق يتغير وأن مناخاته لا يجوز الاستسلام لها وأن الراغب في التعامل معه يمكنه أن يطور في شروط السوق بنوع البضاعة وبجودة التسويق والمتابعة الحثيثة وفتح الاسواق.. وأن الذي لا يشتري ورقة اليانصيب لا يربح حتى لو ملأ الدنيا بالدعاء!!
كان يرى محاولات البعض في رمي الملفات البحثية أمامه ليغرق في دراسات لا قيمة لها .. وكان يقابل ذلك بابتسامة ساخرة .. كان يريد أن يصل إلى العصب في الشركة وأن يطل على المسكوت عنه وعن الوصايا والتعاويذ والراسخين في العلم والمعرفة..
بعد اشهر حين بدا يتنفس خارج المألوف والمقلد والمكرر التقيته فكان ما زال على وعده وأعاد تأكيد وعده بأنه سيصعد بالشركة .. لم يكن لدي يقين كاف أنه سينجح فقد رأيت من يتكلم عن المرحلة بيأس وتشكيك، ولكني قلت لنفسي قد يكون لدى الرجل وصفة وإلا لما تورط في المكان ولما أنفق فيه كل هذا الجهد ولما غرق في كل هذه المراجعات .
استغرق التشخيص لديه اكثر من أربعة أشهر خرج بعدها بنقاط محددة على قطعة من الورق دسها في درج خاص ليراجعها بعد استكمال مرحلة الاقلاع الأولى.
وانتظرناه وجاء بوعده .. كنت على متن الطائرة في رحلة بعيدة إلى أديس أبابا وقد حطت إحدى الصحف على طاولة مقعدي بعد أن طلبتها فقرأت ما لفت الانتباه ” قررت شركة مناجم الفوسفات الأردنية زيادة غلاء المعيشة للعاملين في الشركة بمبلغ عشرين دينار شهريا وصرف مبلغ 550 دينار كمكافأة مقطوعة ولمرة واحدة بالإضافة إلى 20% من صافي أرباح أعمال التعدين والأسمدة”.
قلت: ” يا هملالي” .. صار عندك فلوس يا دكتور محمد ذنيبات من أين لك هذا في شركة كان مصنع شيبس في الزرقاء يربح أكثر منها.. وقبل أن أحتفظ باستهجاني استمريت في القراءة فإذا دنيا الفوسفات الان غيرها بالأمس، وإذا بالرجل الذي صمت يتحدث بثقة وصوت مسموع وإذا بالأرقام تقفز أمامي وأنا أواصل الإمساك بالصفحة دون أن أعود إلى فنجان القهوة الساخن الذي وضعته المضيفة، كنت انتظر هذه اللحظة لأرى وعد الذنيبات ، وقرأت كلمة أرباح فأحسست بنشوة وإذا بالفقرة التالية ” وجاءت هذه القرارات في ضوء الأرباح التي حققتها الشركة خلال العام الماضي 2018، وما تشهده من تحسن كبير نتيجة إجراءات ضبط النفقات التي اتخذها مجلس إدارة الشركة، بعد ان تكبدت الشركة خسائر وصلت الى 90 مليون دينار عام 2016 كادت أن تؤدي إلى تصفيتها”.
وحين انهيت قراءة الفقرة تنفست وعدت لالتقاط الفنجان الذي ما زال لم يبرد.
كانت الفوسفات واحدة من المشاهد التي رأيت الملك محمد السادس يتوقف عندها في مباحثاته في أديس أبابا حيث كنت أرى الوفد الكبير المرافق له وقد نزلت بنفس الفندق الذي نزلوا فيه (شيراتون أديس أبابا” كانت مجموعة الفوسفات المغربية التي ترافق الملك قد نجحت كما قال لي أحد أعضائها على الافطار في توقيع بروتوكول مهم جاء بعد عودة المغرب لمنظمة الاتحاد الافريقي حيث عاد الحسن المغربي لها وأعاد بعودته توقيع هذا البروتوكول مع الحكومة الاثيوبية
قلت لنفسي أين نحن من ذلك؟ وكنت أرى حيرة الدكتور الأشقر من قبل وهو يبحث عن أسواق أوسع وما زلت اذكر أنني حملت من مكتبه ملفاً إلى وزير التجارة الأثيوبي الدكتور احمد الذي اعرفه لينظر في إمكانية التعامل.
أعود من تداعيات الرحلة السابقة في الفوسفات واستكمل قراءة الخبر على الطائرة في السابع من الشهر الجاري ” أعلن رئيس مجلس إدارة الشركة الدكتور محمد الذنيبات خلال لقاءه أمس ( المقصود 6/1/2019) الهيئة العامة للنقابة العامة للعاملين في المناجم والتعدين بحضور عدد من أعضاء المجلس والرئيس التنفيذي للشركة ورئيس النقابة خالد الفناطسة صرف الزيارة ومكافأة الإنتاج تقديراً لجهود العاملين في الشركة وتعاطيهم في مختلف مواقع العمل”
قلت: نيالك يا فناطسة بالتأكيد الآن توقف عندك ارتفاع الضغط ووجدت شيئاً تقوله للعاملين الذين وعدتهم لإبطال أكثر من إضراب عبر سنوات من الانتظار, الآن بين يديك أوراق يمكنك أن تلعبها وتخفف عنك ضغوط البرلمان !!
بيت القصيد هو ضغط النفقات , والذنيبات بحكم ثقافته الإسلامية العميقة يدرك مقولة علي بن ابي طالب رضي الله عنه: ” الاقتصاد في النفقة نصف العيش” ولذا بدأ في تسلق عمود النفقات ليرى قدرته على تحمل البناء وبشر انه يستطيع أن يضغط وقد فعل وإذا بالأرقام تنحدر إلى 16% توفير نفقات وهو يدرك أن ضغط النفقة هو بالمقابل ربح , كان يأخذ بطرف المعادلة الأول “ضغط النفقات” فإذا ما انجزه انتقل لطرف المعادلة الأخر وهو “زيادة الإنتاج” مع تخفيض كلف الطاقة وصيانة المعدات والآليات الثقيلة.
وتذكرت ما قاله لي احد مدراء الفوسفات السابقين أن إحدى الغارفات بقيت معطلة لسنوات وكانت كلفتها أكثر من مليونين من اجل قطعة ثمنها لا يتجاوز بضعة آلاف قبل أنها ثلاثة آلاف دينار , وبدل أن تنقل القطعة الصغيرة بـ “الدي اتش أل” لو كانت العقلية الإدارية ناجحة نقلت في البحر وضاعت لسنة!! حتى إذا ما وصلت اكتشفوا أنها ليست هي !!!
بالتأكيد لم يدرك الذنيبات في البداية أن هذه الجبال من تراب الفوسفات ما زال يمكن تعديتها إلا بعد أن لفت الانتباه إلى ذلك المدير التنفيذي الذي لم يتمكن من إنفاذ مشروع في عهد إدارات كانت تناقش جنس الملائكة منذ اكتر من عشر سنوات وقد غرقت في مقاومة التهم وحملات البرلمان وغضب الشارع الذي جعلها لا تركز على الشركة وإنما اتقاء خطر الرأي العام !!.
الأخبار الجديدة فيما قرأت في نفس الخبر أن الشركة ستستثمر في بقايا الفوسفات المعدن المكوم منذ فترة طويلة والمقدر بنحو ( 60) مليون طن ..
يا الهي الكمية تستطيع أن تردم كامل قناة السويس !!! وهذه الكمية بحاجة أل كربلة ومعالجة وهذا أهون من التعدين البكر إذا جاز لي أن أفتي!!
إذن يستطيع الذنيبات أن يضيف من وراء الحصّادة السابقين ( 15) مليون طن فقد كانت الحصيدة السابقة تتم في جو من السموم الذي أضاع سبلاً كثيراً على ارض الحقل..
انتبهت الإدارة الحالية لضم 15 مليون طن إضافية ستوفر 25% من كلف التعدين وهذه إضافة تمكن الشركة من الإقلاع بعيداً عن مواقع الهبوط الاضطرارية التي كانت تهبط إليها إمام العديد من المطبات !!.
اذن لم يأتي الذنيبات شيئاً فريا ولم يفرك خاتم “شبيك لبيك” بل ردم حوالي (136) مليون دينار من حفرة الخسائر في الأعوام 2016, 2017 محققاً كومة من الربح فوق الأرض بلغت ( 43) مليون دينار..
ضبط النفقات الذي طالة مبضع إدارة الذنيبات لم يقص من العظم أو اللحم بل اخذ من الشحم المترهل الذي زاد جسد الشركة لياقة وجعلها أكثر قدرة على الحركة ولذا فانه بعد العملية الجراحية التي لم يلزمها “بنج” كامل وإنما موضعي أكد للعاملين ما كنت قرأته في الفقرة الأولى عن حقوق أعطيت لهم .
الجديد أيضاً الذي كشف عنه رئيس مجلس الإدارة الذي أبقى التنظير جانباً هي الخطوات المتمثلة في التفاوض مع إحدى الشركات لإنشاء مصنع لحامض الفوسفوريك لينتج أعلافاً للحيوانات ويضع بذلك حداً للقوائم الوهمية عن الحاجة لأعلاف في الجنوب فاقت كمياتها المدعاة ما تحتاجه استراليا لأغنامها البالغة (150) مليون رأس!!
اذن الشركة كما قال المحدث الذنيبات خصصت مبلغ 20 مليون دينار لإعادة تأهيل المجمع الصناعي في العقبة والذي كان مهدداً لولا هذه الخطوة أن يتحول إلى مستودعات.
الخبير الإداري والأستاذ الجامعي ظل يضع عيونه على تفريع صناعات جديدة من الفوسفات حتى لا يبقى يبيع التراب بأسعار رخيصة فقد ظل يؤمن أن التصنيع وإعادة التصنيع يفتح أفاقاً أوسع للاقتصاد الوطني.
الآن الفوسفات أصبحت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وفاتورة التأمين الصحي للعاملين والتي كانت إدارات تريد أن تصادر بعض كلفتها بقيت معززة مكرمة شريطة أن تكون الخدمة افضل وان تجري المسائلة والمحاسبة وتتفتح القوائم وإعادة النظر في المكونات لتطور رضى العاملين الذين تقوم الشركة على أكتافهم.
هذه الانجازات تستحق التقدير ونستطيع أن تقول أن الرجل وإدارته أوفى بما عاهد عليه وهو ما زال يترجم هذا الوعد…