دخلت تركيا في مصالحة تاريخية كبرى، في حين تكاد مصر تغرق في بحر الانقسام والخصام. ومن مفارقات الأقدار وسخرياتها أنه في الوقت الذي كانت ترتيبات المصالحة تجري بين أنقرة وبين القيادة الكردية، فإن النخبة المصرية كانت تواصل تجاذبها وعراكها، مستخدمة في ذلك مختلف أسلحة القصف والاغتيال، المقبول منها والمحظور، حتى قرأنا لأحد هواة السياسة الجدد قوله إن مصر لن تسعنا معا (المعارضة والإخوان)، الأمر الذي وضعنا أمام مفارقة فاجعة في المقارنة. إذ رأيناهم يوم الخميس الماضي (21/3) يطلقون صيحات الفرح في 50 ميدانا تركيا احتفاء بالمصالحة، وفي ذات اليوم هللت بعض صحفنا لأن «مصر طالعة» إلى المقطم بعد 24 ساعة (صباح الجمعة) مستهدفة مقر جماعة الإخوان، للانخراط في جولة جديدة من العراك المجنون والعبثي.
أرجو أن تعتبر ما سبق «فشة خُلق» كما يقول إخواننا في الشام، لأنني كنت قد عزمت على الحديث عن أهمية وعبرة المصالحة التاريخية التي حدثت في تركيا يوم أمس الأول (الخميس)، لكنني وجدت أن بعض الصحف المصرية الصادرة في صباح اليوم ذاته كرست صفحاتها وأخبارها وتعليقات كتابها للتعبئة والتحريض على الانخراط فيما سمي «طلعة الجمعة» فدفعتني المفارقة إلى المقارنة التي لم يكن منها بد.
الحدث التركي الكبير الذي أعنيه تمثل في نداء وجهه عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني دعا فيه إلى طي صفحة الاقتتال ضد الحكومة التركية والاتفاق على مصالحة بين الطرفين تحفظ للأكراد حقوقهم القومية التي ناضلوا من أجلها خلال الثلاثين عاما الأخيرة. وهي المواجهة البائسة التي أدت إلى قتل أكثر من 50 ألفا من الجنود الأتراك و40 ألفا من مقاتلي الحزب الكردي، هذا غير عشرات الآلاف من المشوهين والمعاقين وأمثالهم من المعتقلين وغيرهم من المشردين، الأمر الذي كلف الخزينة التركية نحو 300 مليار دولار خلال تلك الفترة.
أما جوهر المشكلة فيكمن في أن القوميين الأتراك الذين أسسوا الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي رفضوا الاعتراف بالهوية الكردية، وظلوا يطلقون عليهم اسم «أتراك الجبل»، وترتب على ذلك سحق هويتهم وقمع ملايينهم (عددهم الآن يتجاوز 15 مليون نسمة يسكنون جنوب شرقي تركيا)، حيث منعوا من استخدام لغتهم وأغانيهم وأسمائهم وثيابهم التقليدية. وبعدما صبروا طويلا وعانوا كثيرا رفعوا السلاح في ثمانينيات القرن الماضي، مطالبين بحقوقهم التي أهدرت وهويتهم التي محيت. وطوال تلك الفترة ظل الناشطون والمقاومون الأكراد يصنفون باعتبارهم «إرهابيين»، في حين ظل الخطاب السياسي التركي يرفض الاعتراف بأن في البلاد مشكلة كردية.
اختلف الأمر منذ عام 2002 حين تولى حزب العدالة والتنمية السلطة، الذي قاد الدعوة إلى تحويل تركيا إلى دولة ديمقراطية يحكمها الشعب وليس العسكر. ولذلك وضعت ضمن أولوياتها فك العقدة المستعصية. وتمثلت البداية في الاعتراف بوجود «المسألة الكردية»، ثم اتجهت إلى تنمية المحافظات الكردية التي تتركز في منطقة الأناضول. وظلت تسعى بصورة تدريجية إلى الاعتراف للأكراد بحقوقهم القومية، إلا أن حزب العمال الكردستاني ظل شاهرا سلاحه وبدا في بعض الأوقات أنه جاهز لمناوشة الجيش التركي، وهو ما ظهر بوضوح بعد توتر العلاقات مع سوريا، التي استخدمت الورقة الكردية للضغط على دمشق وإزعاجها.
خلال السنتين الأخيرتين نشطت المخابرات التركية في الاتصال مع الزعيم الكردستاني الذي ألقي القبض عليه في عام 1989 وأودع جزيرة «ايمرالي» المنعزلة، بعد أن نجا من الإعدام. وبعد سلسلة من المفاوضات معه ومن المشاورات أجراها مع أعوانه، تم الاتفاق على الإعلان الذي جرى بثه يوم الخميس الماضي في عيد النوروز الكردي، ليمهد لطي صفحة العنف المتبادل، ووضع أسس المصالحة التاريخية. وبناء عليه يوقف إطلاق النار وينسحب المقاتلون الأكراد باتجاه العراق، وتستمر التهدئة مدة تسعة أشهر تم خلالها التعديلات الدستورية التي تعترف بالهوية الكردية وتعيد إليهم حقهم في المواطنة، بما يسهم في استتباب الأمن وشيوع الاستقرار في ربوع البلاد.
سواء كان دافع أردوغان في ذلك رغبته في العثور على حليف جديد بعد فشل العلاقات مع سوريا، أو حرصه على كسب أصوات الأكراد قبل خوضه الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، أو حتى تعزيز موقع بلده في محيط عالم السنة، فالثابت أن الفائز الأكبر في خطوته تلك هو الشعب التركي بمختلف مكوناته، لأن السلام المفترض من شأنه أن يعزز السلام والاستقرار والرخاء الذي ينعم به الجميع ــ عقبالنا.