كنا نحبس أنفاسنا، طيلة أيام ثلاثة، حتى ضاقت بالفرح صدورنا. هل شهد أحد قبلنا، عبر كل التاريخ، ما شهدناه في شوراع مصر طيلة الساعات التي رأيناها فيها، بشعبها العظيم، فخر أمته العربية وموضع اعتزازها، تغضب كما غضبت؟ لأول مرة في تاريخها تنتفض أرض الكنانة العملاقة انتفاضة تسقط كل ما علق بجسمها الضخم من غبار الطريق وعوالق الكهوف ومتاهاتها التي أدخلت فيها بالقوة.
من كان يصدق أن 40% من شعب أي دولة على وجه الأرض سوف يشارك بانتفاضة واحدة، أي انتفاضة؟ فيمتلئ كل متر مربع من شوارعها به؟ هل كان ذلك ممكنا في أي مكان آخر غير مصر؟ والجديد أن الغضب لم يكن على حاكم بعينه، أو على مجموعة من الناس تستغل وظيفتها وتستهين بهم. وذلك كان أمرا عاديا في كل البلاد وعبر كل التاريخ، واحتاج، في كل مرة حدث فيها، إلى ثورة صغيرة أو انقلاب، أو خروج فردي أو جماعاتي على الحاكم، وبالقوة أحيانا.
الجديد في مصر، أن ثورتها، هذه المرة، كانت على اتجاه فكري وعقائدي يدين به، ولأسباب تاريخية مرضية خاصة، جزء هام من شعب مصر، عمل، حين تمكن، على إخراج هذا الشعب، بالقوة، وبكل ما تحتاجه القوة من عمى سياسي واجتماعي وفكري، من أرضه ومكانه ودوره، والعودة به إلى مجاهل التاريخ، بعيدا عن مكانه الطبيعي في القرن الواحد والعشرين، وبطرق غير طبيعية اجترح فيها منفذوها كل أشكال الخروج على القيم التي يجب أن يتحلى بها الحاكم المتنور مثل تناسي الحقائق الواضحة على الأرض واستغفال الناس والاستهانة بمخاوفهم وبحقوقهم الإنسانية والإصرار على فرض واقع آخر عليهم يعرفون فيه مدى وعمق ذلك العمى السياسي الذي أخضعوا له.
لم يكن المراقبون من أمثالي يعرفون، لبعد المسافة، وقلة المعلومات، الآثار الضارة لتلك السياسة إلا عندما سمعنا لثالث أطول خطاب في التاريخ للرئيس محمد مرسي، ولخطابه المقتضب الثاني قبل إسقاطه، وخطاب مرشده العام، ورفاقه من قادة الإخوان، الذين استهانوا بغضب المصريين، وأصروا على ذلك حتى أغرقهم الغضب وجرفهم بعيدا عن الأنظار.
لقد علمنا لاحقا أن قادة الجيش المصري قد حاولوا فتح الحوار معهم في 22 حزيران، فرفضوا الحوار، وتجمعوا في رابعة العدوية. وكنا نرى جموعهم، وعلمنا، لاحقا، أنهم استعانوا بالأرشيف فنشروا، لتضليلنا، صورا لجموع كبيرة قديمة اجتمعت في غير مناسبة 30/حزيران.
وصدقنا الرواية؛ صدقها كل الأردنيين. نحن تعرف، بالتجربة المباشرة، كيف رفض جناح الإخوان المسلمين الأردني كل عروض الحوار الرسمية والشعبية من قبل. وعندما كان ينجح أحدهم، فردا أو مؤسسة مجتمع مدني، بعقد مثل هذا الحوار، كنا نسمع الخطاب نفسه، مرة وأخرى.
بديلهم للحوار والتوافق كان، دائما، التهديد باللجوء للشارع. وبقي ذلك هو شعارهم حتى وجدوا الشارع فاغرا فاهه، صامتا لا يرون فيه غير صفحاته الإسفلتية الصلدة.
وفي مصر، قرر قادة الثورة، العسكريين والسياسيين، إيداع قادة الإخوان جدران الإقامة الجبرية. هاهو التاريخ يكرر نفسه مرة أخرى، سوى أن ثوار اليوم هم عشرات ملايين الناس يخرجون المهزومين من صفوفهم للبرد والحر في العراء، في مصر نفسها وفي كل جوار مصر. ما أعظم مصر!!