ينقل المفكر السوري د. برهان غليون عن المستشرق الفرنسي رودنسون في كتابه “سحر الإسلام” كيف أنه في القرن السابع عشر وبعده، كان الإسلام يعتبر في الغرب رمز التسامح والعقل على النقيض من الدين المسيحي ومذاهبه المتعصبة للعقل، فقد أخذهم ما يؤكده من ضرورات التوازن بين حاجات العبادة وحاجات الحياة وبين المتطلبات الأخلاقية أو المعنوية وحاجات الجسد وبين احترام الفرد والتشديد على التضامن الاجتماعي”. وكان التركيز كبيرًا لدى المثقفين في مواجهة المسيحية على الدور التحضيري للإسلام وعلى عقلانية الاعتقادات النابعة منه. فقط ـ كما يقول د.غليون ـ منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر بدأ الأوروبيون يعتبرون أن المسيحية هي سبب التقدم والنجاح في أوروبا، وأن الإسلام هو سبب العجز والتأخر في العالم العربي والإسلامي، وبعد أن كان الإسلام يستخدم كنموذج للدين العقلاني والحضاري في مواجهة المسيحية “المتعصبة والبربرية” بدأت الآية تنعكس تمامًا ليصبح الإسلام شيئًا فشيئًا مثالًا للبربرية التي تهدد الغرب.. لقد ترسخت القناعة بأن أوروبا هي قاعدة الحضارة وأن كل ما يقف في وجه أوروبا فهو معادٍ للحضارة، وكأن الإسلام كثقافة ومدنية ومجتمع هو العقبة الرئيسية إن لم تكن الوحيدة التي تحول دون امتداد التوسع الغربي في اتجاه الجنوب والقارات والحضارات القديمة، وكان لا بد لهم من أيديولوجيا تؤجج العداء له وتبرر العدوان عليه في الوقت نفسه في نظر الأوروبيين أنفسهم ونظر العالم”.
ومن هذه الرؤية الجامدة نشأت “الأصولية العلمانية” في الغرب التي لا تقبل غير الرؤى المنطلقة منها، صحيح أن الغرب عندما انقلب على الكنيسة جردها من سلطاتها وأزاحها من مكانتها الكبيرة في المجتمع الغربي، لكنه لم يتنازل كلية عن طموحات هذه البابوية وذاكرة المركزية الأوروبية وإنها محور الإنسانية وتاريخها وإقصاء الآخر وتهميشه فكريًا وثقافيًا وتأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محور “الأنا” الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقليًا وحضاريًا وعرقيًا..وهذه العقلية بقيت راسخة حتى بعد سقوط البابوية وتأسيس العلمانية”. وسنكون مخطئين -كما يقول د. محمد عابد الجابري- إذا اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية والدينية وأنه الآن غرب علماني خالص عقلاني براجماتي لا غير، سنكون مخطئين إذا نحن جردنا الغرب من ذاكرته الثقافية الدينية ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين في كل من أوروبا وأمريكا فهي تفعل ذلك بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين. وإن الذاكرة الثقافية والدينية ما زالت تمارس فعلها في تفكير الصحفيين والمحللين وصناع السياسة من الليبراليين العلمانيين في الغرب”.
وحاولت العلمانية بعد مزاحمتها للكنيسة في التأثير والمكانة في المجتمع الأوروبي أن تستعيد الذاكرة السلطوية لرجال الدين في التميز والهيمنة من خلال الادعاء “بالكونية” والفرادة للغرب، ومن منظور الفلاسفة أنفسهم وشجعوا حتى الاستعمار، وهذا الموقف المزدوج للعلمانية في الغرب جعل البعض يشك في مصداقية مقولاتها عن الحرية والتسامح والتعددية الديمقراطية تجاه الآخر، لكن ذلك لم يتحقق بصورة مقبولة، فليس من المصادفة البتة بل العكس ومن باب الانسجام الفكري ـ كما يقول روجيه جارودي ـ في أن يكون أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا مؤسس المدرسة العلمانية “جول فري” هو نفسه المحرض على الغزو الاستعماري في مدغشقر وفي تونس والفيتنام..هذا المفكر الواضح كان في فرنسا المنظر الأعنف للاستعمار مثلما كان في إنجلترا ستيورات ميل وهو تلميذ آخر من تلامذة وضعية “أوغست كونت” ففي خطابه يوم 27 يوليو 1885 أمام مجلس النواب تقوم على ثلاث قواعد اقتصادية..إنسانية..سياسية “. وفي فقرة أخرى قال: “لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا هو من التاريخ إنه من الميتافيزيقيا السياسية.. أيها السادة لا بد من القول بصوت أرفع وبحقيقة أكثر يجب القول بصراحة أن للأعراق العليا حقًا عمليًا على الأعراق السفلى”. هذه “العلمانية” الانتقائية أوجدت نزعة فلسفية تدعى المركزية “الكونية” واحتكار العلم والحضارة مع الإقصاء للآخر المختلف أو كما يسميها البروفيسور [روبرت سولمون] “ثقافة الهيمنة” وهذا ما حدا بالباحث الإنجليزي “ريتشارد ويبستر” يتساءل “هل هذه عملية ارتدادية لعصاب جماعي تحاول من خلالها ثقافة سلفت أن تحيا مرة أخرى لحظة من طفولتها؟ وهل هو أمر مختلف ربما تكون حال دعت العلمانية إلى إسقاط قناعها العقلاني من أجل أن تكشف في لحظة ما عن هويتها الحقيقية والتي هي في عمقها هوية دينية؟
ويضيف ويبستر ـ وإذا ما فهمنا تراثنا على نحو أفضل فإننا سنبدأ بالشك في أن العلمانية بدلًا من أن تكون قد هزمت التراث المسيحي اليهودي فإنها عبرت عن تفوقه الكبير وما أريد افتراضه هو أنه إذا كانت القيم الدينية لا تلعب دورًا مهمًا في المجتمع العلماني، فهذا لا يعني أنها تركت أو همّشت، وإنما دليل على مدى دخولها إلى داخل الفرد وإلى هويتنا العلمانية إلى الدرجة التي لا نحتاج معها إلى إظهارها في أي شكل خارجي”!! إذًا القضية أبعد من كونها نظرة سطحية ساذجة أو عاطفية عابرة لذلك فإن ازدواجية الطرح تجاه الإسلام لها من الخلفيات ما يجعل المحلل أو الباحث يفقد معايير الدقة والمصداقية، ومنها موضوع “الأصولية” ومع الاختلاف البين في المصطلح فإن الغرب لا يزال يصر على تسمية الإسلام وربطه “بالأصولية” وفق مفهوم المسيحي الكنسي في القرون الغابرة. “والأصولية في الإسلام” تعني الالتزام بقواعد السلوك والقيم في عصره الأول. وكما عرفه السلف الصالح في الفقه والاجتهاد ومقاصد التشريع..إلخ لكن الأصولية في الغرب هي النظرة المتزمتة التي تحارب العلم والاختراع والعصرنة وهذا ما ينكره الإسلام.
أما موضوع العنف والتطرف والإرهاب الذي يجتاح عصرنا الراهن فإن المؤثرين في صناعة القرار في الغرب يحاولون أن يلصقوا هذه الظاهرة بـ”أصل الإسلام” وطبيعته الكامنة فيه، وهذا غير صحيح. فالإسلام وأصوله التشريعية ترفض مبدأ العنف وتنكر الإرهاب والتطرف مهما كانت أسبابه، وقد لا نتجاوز القول إن جزءا من ظاهرة العنف والإرهاب ترجع إلى ما اقترفه الغرب ومظالمه وازدواجية معاييره إذا ما أردنا الدقة والموضوعية..لذلك فإن الأولوية في القضاء على هذه الظاهرة هي العدل في الحكم على الأشياء والظواهر من دون محاباة أو كراهية، وبغيرها سيكون العلاج كمن يقاتل طواحين الهواء مثلما فعلها دون كيشوت.