كلما يجالس المرء هذه الأيام لفيفا من العرب في أي مكان من العالم إلا ويطرح بعضهم عليه أو هو نفسه يطرح عليهم ذات السؤال: إلى أين نسير؟ وكيف سيتشكل مستقبل العرب في قادم الأيام؟ وهذا السؤال التقليدي هو أبرز ما يطرح على الضمائر قبل المجالس في ظل أحداث دامية لم تعد فيها للعرب قدرة على توجيهها أو التأثير في مسارها بل إن العرب أو في الحقيقة أغلبيتهم يعشون عصرا جديدا أهم ملامحه الخروج قسرا من دورة التاريخ والقبول بمصير المفعول بهم في مهب العواصف. لعلني لا أضيف شيئا ذا أهمية حين أقول إن مواطني جمهوريات العرب مروا بعشريات من الزمن كانوا خلالها محكومين بأنظمة فردانية حتى لو أنجزت تلك الأنظمة بعض المكاسب فخلدت الشعوب لسنة من النوم الحضاري مسلمة قيادها للقائد الأوحد والزعيم المفرد لكن كل قائد تأبد تحيط به بطانة سوء تنشر الفساد وتزين له المشهد العام بإتقان ممارسات الغش من الصنف الذي كاد يكشف عنه شريط مصري بعنوان (طباخ الريس) وتقول له ما يريد سماعه حتى يصاب القائد بمرض الوحدانية والشخصانية ويتأبد عن حسن نية لخدمة شعبه الوفي في كرسي الحكم بفضل انتخابات مزورة تقوم بطانته بتغيير نتائجها (لمصلحة الشعب وللحفاظ على وحدة الأمة!) وحسب نواميس التاريخ فإن كل مزيف يكتشف ويتحرك ضحايا المهزلة من الجيل الثالث للمطالبة بحقوق أساسية غفل عنها نظام الحكم مع الجيلين السابقين وربما اتسعت دائرة المطالبة لتنتشر وتتسع وتتحول بعض المجتمعات من العواطف إلى العواصف وتتدخل القوى الإقليمية والدولية لتحول مجرى الأحداث إلى ما يخدم مصالحها ويقوم الإعلام القوي ببرمجة الحراك الجماهيري لتوظيفه لما يعزز مناطق نفوذ القوى العظمى وأحسب والله أعلم أن العرب بلغوا شفا حفرة من النار الحضارية ولم يلقوا بأنفسهم فيها بعد! إن ما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن لا يبشر بخير بل إنه يؤكد أن خارطة جديدة يقع رسم حدودها بإرادة واشنطن وموسكو والاتحاد الأوروبي برضا صامت من الصين لتتشكل فيدراليات عرقية وطائفية مجزأة تقاس أحجامها على قياس المجموعات التي تتكون منها والتي ثبت أنها اليوم تطمح لاستقلال ذاتي أو تشكيل دويلات حرة لديها راياتها وعملتها وجوازاتها وحدودها حتى لو قبلت الجوار السلمي مع مثيلاتها ثم إن الأنموذج البلقاني ماثل أمام العرب يؤكد لهم أن الفيدراليات يمكن أن تكون الحل الأقل دموية وسوءا في زمن الكوارث! فالدولة الوطنية العربية كما ولدت من رحم معاهدة (سايكس بيكو) لم تعد تقوى على البقاء لأن حدودها رسمت من قبل وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا بما يضمن لهاتين الإمبراطوريتين الآفلتين الحضور والاستغلال واستمرار الاستعمار بأشكاله المبتكرة وبعد أن أفل نجم القوتين التقليديتين كأنما صدق فيهما قول الحق تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) فنشأ عملاقان جديدان هما الولايات المتحدة وروسيا فحان أوان إعادة تقاسم تركة الرجل المشرقي المريض أو المحتضر (حسب أدبيات مطلع القرن العشرين) ويا أسفاه ويا خيبتاه حين ندرك بأن الرجل المريض ظل هو نفسه على مدى قرن بالتمام والكمال لم يتعاف ولم يعتبر بالتاريخ فانظر حولك العراق بعد 13 سنة مما سمي بالتحرير وبالتحديد منذ يوم 9 أبريل 2003 حين قام الأمريكان بحل مؤسسة الجيش بقرار من السيد (بريمر) بعد انهيار نظام البعث فلم يبعث للحياة نظام بديل بل انفرط عقد شعب عراقي غني ومثقف وسادت الفوضى وتصارع حلفاء الأمس حول النفوذ وتسلل العنف الأعمى ليجد فضاء رحبا من ساحات التطاحن الطائفي دون الوصول إلى بناء ديمقراطية مستوردة بشرونا بها عقودا ولم نر منها بصيص أمل يتجسد.
وانظر إلى الواقع السوري الذي حول شعبا من أعرق شعوب الأمة إلى ملف لم يفكك شفراته الغامضة السيد (ديمستورا) ولم يستطع أساطين القوى الإقليمية والعالمية الحد من مضاعفات مأساته حيث تشتت مئات الآلاف من الأسر بأطفالها إما في ملاجئ الدول الجارة وإما على تخوم الحدود الأوروبية في مشاهد أليمة ستظل تشهد على عارنا وعرينا على مدى عقود قادمة وأمام ضمائر الأجيال العربية الصاعدة.
(ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) كما جاء في كتاب الله عز وجل إذا تأملت في حال ليبيا فأدركت أن حقيقة اللادولة التي تركها قائد ثورة الفاتح أنجبت حكومات عديدة، كل تدعي الشرعية وتسلح ميليشيات وتشارك في اجتماعات متشابهة تعقد في مدن عربية وأوروبية ويصطدم الفرقاء المشاركون فيها بقضايا تعيين الأشخاص عوض التركيز على بناء مؤسسات دولة راسخة قوية قادمة بلا تعيينات ثم في مرحلة أخرى محاولة الوفاق حول من سيكون قائدا لأركان الجيش ومن سيتولى رئاسة الحكومة ومن سيرأس المجلس التشريعي.
وأذكر أنني نصحت بعض الإخوة الليبيين بأن يحذوا حذو ألمانيا واليابان بعد تدمير هاتين الدولتين وهزيمتهما في الحرب الكونية الثانية فقامت النخب السياسية فيهما بإعادة تأسيس مؤسسات الدولة من جيش وأمن وتعليم وصحة وإدارة ولم يفكر ألماني ولا ياباني فيمن سيتولى رئاسة هذه المؤسسات حتى اكتمل بناء الدولة وأنت ترى اليوم أيها القارئ الكريم درجة القوة والتقدم والمناعة التي عليها هاتان الدولتان. أما نحن العرب فعلى إثر معضلاتنا بدأنا بالاختلاف حول من ومن ومن من الناس أحق بالقيادة والريادة حتى خرجت مصائرنا من أيدينا.
أما عن اليمن فستعجز عن إدراك حجم الكارثة التي ألمت بشعب مسالم طيب متماسك لعبت فيه وبقبائله أيد أجنبية تستثمر في مأساته، إنها القارعة وما أدراك ما القارعة في زمن تتحد فيه أمم أخرى وتتضامن وتقوى.