بعد كل حادثة إرهابية تقع في أي بلد في العالم، ويروح ضحيتها عشرات الأبرياء من الناس المسالمين يستذكر مئات الملايين في أوروبا وأمريكا وآسيا، بل وكل مكان، حالة الجنون المتوحش، والكراهية العمياء، والرغبة في التدمير، التي تحرك أولئك الاشخاص “المسلمين”. ويعلن واحد من التنظيمات التي تسمى “بالإسلامية” مسؤوليته عن ذلك العمل “المشين” وكأنه حقق انتصاراً على أعتى الأعداء. وتستعيد الملايين في أنحاء المعمورة الصورة الوحشية التي أصبحت ترافق العربي والمسلم في كل مكان. وخلال أيام قليلة تتكشف التحريات عن “شباب” كانوا يعيشون في ذات البلد الذين يعملون على تدميره، وكأن ميلادهم ونشأتهم لم تغير فيهم شيئاً سوى مزيد من العنف والكراهية التي تشبعت بها عقولهم ونفوسهم جيلاً بعد جيل.
والمتتبع لما تقوله الحكومات العربية والاعلام العربي يلاحظ ان الجميع يتحدث عن محاربة التطرف والفكر المتطرف، ولكن العمل الحقيقي الذي يتم في هذا الاتجاه ضئيل للغاية، ويكاد لا يلمسه احد. ما الذي تغير في تفكير الشباب منذ (4) سنوات حتى الآن؟ ما هي البرامج التي قامت بها وزارات الثقافة والأوقاف والمؤسسات الإعلامية؟ ما هي ميزانية هذه البرامج؟ ومن يعمل فيها من العلماء والخبراء والمفكرين والمثقفين؟ إن ما تخسره الأقطار العربية جميعها بدون استثناء نتيجة حالة التطرف والإرهاب هو بعشرات الملاين من الدولارات يومياً. فكم تخصص كل دولة لمواجهة ذلك على الساحة الفكرية؟ بل لا زالت بعض وسائط الإعلام والصحف المحلية التي لها ارتباطات سياسية – دينية تمتنع عن وصف ما يحدث بالعمل الإرهابي. ولا زالت تستعمل كلمات مثل: الانفجارات والقتلى والدولة الإسلامية. بل تسمى تصدى الدولة للإرهاب: “بالعنف والعنف المضاد”.
ولا زالت الفلسفة والأسس التي يقوم عليها تدريس التاريخ والثقافة الدينية في جميع الأقطار العربية ربما باستثناء لبنان بعيدة كل البعد عن الارتباط العقلي والنفسي بالوطن، وبالدولة الوطنية بالقانون. ولذا فإن الشباب، وخاصة الذين بجرفهم تيار التطرف والإرهاب، لا يفهمون الوطن ولم يدخل في أعماق عقولهم وضمائرهم، خاصة وأن الثقافة التاريخية والدينية التي تعطى لهم لا تضع مكانة للوطن، باعتباره الحصن التاريخي الذي يحمي الدين والإنسان، ولا تضع مكانة للدولة وللدستور والقانون باعتبارها البناء والمرجع لتنظيم الحياة اليومية وحماية الأرواح والأموال والمقدسات. ولذا من السهل أن ينزلقوا لمقولة سيد قطب “… الوطن هو الدين وما عدا ذلك هو حفنة من طين”، أو أن كلمات مثل الوطن والدولة والدستور والقانون كلها لم ترد في الآيات الكريمة. ومن المطلوب هو تصحيح هذا الوضع تربوياً وثقافياً وإعلاميا ودينياً وممارسة في الحياة اليومية. وليس هناك من فائدة أن يقرأ العرب الآيات الكريمة التي تفيض رحمة بالناس وتعاطفا مع الإنسانية، بعد أن تكون عقول الشباب قد ملأها شيء آخر ضد ذلك تماماً. قد ملأها الفكر الذي يحرّف الآيات عن مقصدها ويجعلها زوراً وجهلاً وبهتاناً مصدراً للقتل والعنف والإرهاب.
يقول البعض، أن المتورطين في الأعمال الإرهابية هم أساسا من صنيعة الغرب وتربوا في أحضانه. ويقال أيضا إن الذين ولدوا في أوروبا كانوا يعانون من التهميش ومن الاغتراب: هذا غير كاف أبدا للتفسير أو للتبرير بعيداً عن الفكر والمعتقد والثقافة. وبالمقابل يتساءل الناس في كل مكان: ألا يعاني الهندي والكيني والنيجيري والناميبي والفلبيني والتايلاندي والبنغالي من الاغتراب والتهميش في أوروبا؟ ألا يعاني المكسيكي والأرجنتيني والكوبي من التهميش في الولايات المتحدة الأمريكية؟ نعم. ولكن المهمش من هؤلاء لا يلجأ إلى التدمير، ولا يفيض قلبه وعقله بكراهية الآخر، إلى درجة نسف مطار أو محطة قطارات. ولكن العربي المسلم يفعل ذلك في امريكا واسبانيا وبلجيكا واندونيسيا وسيناء والرقة والموصل بل وفي المسجد والكنيسة، والمدرسة والمستشفى، وفي حفل الفرح و صيوان العزاء، وفي كل مكان. ذلك ان التربية والنشأة والثقافة أهملت فيه الجانب الإنساني و الجانب العقلاني و أشياء أخرى كثيرة.
إن التنشئة السائدة في الثقافة العربية الإسلامية تجعل من “الآخر” منذ البداية عدواً لأنه كافر، لا يؤمن بما أومن به”.. والتنشئة العربية في المدرسة والمعهد والجامعة لا تعمل، وفق برامج راسخة، على تجذير روح العمل الجماعي وإذابة الحواجز بين مكونات المجتمع من خلال القناعة العقلية الكاملة، والاعتماد على عمل الفريق الذي يعبر عن حبه للمغامرة من خلال العمل النافع والاكتشاف للكثير من مجاهل العلم أو التكنولوجيا أو الوطن. والتنشئة العربية لم تحول الخدمة العسكرية بوتقة فاعلة لصياغة عقول الشباب وشد أعوادهم في إطار المواطنة العقلانية والمساواة والالتزام بالقانون. والعمل السياسي العربي لم يشجع الأحزاب ويجعل منها نقاط جذب للشباب ليشعروا بالقوة، ولا مصانع للتناغم والانسجام الفكري الاجتماعي ومنطلقاً للشباب للتعبير عن أفكارهم وتطلعاتهم في إطار الوطن والمواطنة.
فإذا نظرنا إلى المستقبل ،فعلينا أن نعمل من أجله وفق برامج واضحة و أن يتم إعلان ذلك. إن نقطة الإنطلاق أن يتم استثمار الإجازة الصيفية في مجموعات أو معسكرات لتدريب و إثراء معرفة الأساتذة والمعلمين بالتوجهات التي من شأنها أن تزيل في نفوس طلبة المدارس والجامعات والمعاهد أية نزعات غير وطنية و أي أفكار غير إنسانية و أي ميول نحو العنف والتطرف .