يعاني قطاعا الصناعة و الزراعة من مشكلات مزمنة يعود بعضها إلى أكثر من (30) عاماً. ومع هذا فإن الموقف الجاد لحل هذه المشكلات لم تتعامل معه أية حكومة بشكل عملي وحاسم. فهناك آلاف المصانع أقفلت أبوابها أو مهددة بالإقفال، أما بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، وإما بسبب تعقيدات الإجراءات الحكومية، أو حالة التسلطية المستمر ة من” أواسط و صغار الموظفين نتيجة للفساد الصغير و غياب التأهيل و عدم الإكتراث”، وإما بسبب فتح باب الاستيراد على مصراعيه، و”اتفاقيات التجارة الحرة غير المتكافئة”، وإما بسبب تأثيرات العمالة الوافدة، أو الإشكالات المالية ونقص السيولة، و عزوف البنوك عن إعطاء تسهيلات للمشاريع الصغيرة و المتوسطة و التي تشكل أكثر من 92% من المؤسسات المنتجة، وغير ذلك الكثير . إن قطاع الصناعة يمثل الركن الأساسي في بناء الاقتصاد الحديث و القاطرة الرئيسية لأي نمو اقتصادي حقيقي و لنمو و تقدم القطاعات الأخرى أي الزراعة و الخدمات و زيادة القيمة المضافة فيهما بمعدلات مقبولة. وهو في نفس الوقت يوظف ما يقرب من 20%من القوى العاملة. ومن هنا فإنه لا يمكن أن يترك هكذا.. يصارع الأحداث وحده و يتحمل تعقيدات الإدارات الرسمية المختلفة، دون أن تكون هناك برامج حكومية واضحة و عاجلة لحل المشكلات على اختلاف أنواعها، ليس فقط بصورة إجمالية و إنما لكل قطاع فرعي أيضا.
لا احد يدعي أن قطاع الصناعة خال من الأخطاء التي ينبغي أن تتحمل الإدارات الصناعية مسؤوليتها وتبعاتها، بما فيها الإدارات و أعضاء مجالس الإدارة المعينين من الحكومة على سبيل المجاملة أو الإسترضاء. ولكن ذلك لا يبرر خروج الدولة من المشاركة والتخلي عن المسؤولية تماما، والتفرج على الصناعات و الشركات تتساقط الواحدة تلو الأخرى كما هو في قطاع الأثاث و الصناعات البلاستيكية و صناعة الحديد و غيرها الكثير. ففي النهاية، إن كل المرافق و الشركات والمصانع والمشاريع هي مكون رئيسي من مكونات الثروة الوطنية ينبغي المحافظة عليها، ليس فقط من أصحابها، و إنما من الدولة أيضا.و المطلوب أن تبادر الحكومة بالتعاون مع الغرف الصناعية و الخبراء و البنوك و المفكرين إلى وضع وتنفيذ برامج إنقاذ موجهة نحو تخفيض كلف الإنتاج و مساعدة الصناعات المتعثرة على النهوض، وتشجيع الصناعات الإحلالية، والعمل مع الصناعة على زيادة الإنتاجية و تنويع و تحديث الإنتاج ووضع “مدونة سلوك لإدارة الشركات” و مراجعة الإتفاقيات الدولية و عدم الإنسياق وراء نصوصها بعيون مغمضة. وهذا لن يكلف الدولة من المال و الجهد إلا الشيء اليسير.
وإذا كانت الصناعة تعاني من الإهمال والإستقواء وتغليب السياسي في الاتفاقيات على الاقتصادي، فإن معاناة القطاع الزراعي أكثر إيلاما وأشد خطورة. “الزراعة ليست مجرد أنتاج سلعة، إنها توزيع للسكان وإعمار للبلاد وخاصة القرى والأرياف، وضمان للغذاء بأسعار تستطيع تحملها الغالبية الكبرى من المواطنين”. والذين راحوا ينحدرون ببطء نحو خطوط الفقر نتيجة لمحدودية الدخل من جهة ،و الاعتماد المفرط على الاستيراد وللتضخم ولارتفاع أسعار السلع والخدمات المستوردة من جهة أخرى. وكما هو الأمر في الصناعة فإن الزراعة تعاني من شح المياه و ارتفاع كلفة الإنتاج ومن انخفاض أسعار المنتجات بسبب فائض الإنتاج في فترات موسمية، ومن صعوبة التصدير وضآلة الأسواق. ويبدو أن الحكومة تشعر بالسعادة لأنها تفتح باب الاستيراد على مصراعيه للمنتجات الزراعية، ابتداء من إسرائيل و انتهاء بالأرجنتين. هذا في حين آن دولة كالولايات المتحدة لا تقبل إدخال المنتجات الزراعية والغذائية إلى أسواقها رغم إنها قائدة السوق الحرة في الاقتصاد العالمي.
هل يعقل آن الدولة لم تطلع على تجارب الدول الأخرى لتقف “الإدارات الحكومية العتيدة” حائرة مترددة غير قادرة على حل مشكلة فائض الإنتاج وتذبذب الأسعار في عدد من المنتجات الزراعية تتركز أساساً في بعض من الخضار وقليل من الفاكهة؟ هل يعقل أن يلقي منتجو البندورة والبصل وغيره إنتاجهم في الطرقات، ولا تتحرك الحكومة لإنشاء مصانع لتصنيع المنتجات الزراعية؟ في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع من البطالة؟ هل يعقل آن تمنع الحكومة توسع مزارع الدواجن الصغيرة وتفتح باب الاستيراد للدواجن المجمدة من كل مكان؟ بدلا من أن تساعدها على تطوير إنتاجها؟ هل يعقل أن الحكومة لم تسمع شيئا عن دعم الزراعة و تصنيع القطاع الزراعي؟
إن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها الكثير من الدول، تقدم الدعم للقطاع الزراعي بمليارات الدولارات سنويا رغم وفرة المياه و انخفاض كلفة المدخلات الإنتاجية لديهم و ارتفاع الإنتاجية و توفر العلم والتكنولوجيا و البحث العلمي المتواصل، في حين أن المزارع الأردني يئن تحت وطأة الضرائب والرسوم على مدخلات الإنتاج، وانخفاض الإنتاجية، وقلة المياه، وغياب التصنيع،و تواضع أساليب الإنتاج ومنافسة المستوردات .
أن إقدام المستثمرين على أنشاء صناعات زراعية أو التوسع في المشاريع الصناعية هو ضعيف بسبب الظروف غير المستقرة في دول الجوار، وبسبب العقبات الداخلية. وهذا يستدعي أن تأخذ الحكومة المبادرة وتكون شريكة للقطاع الخاص و الجمعيات التعاونية لفترة زمنية مناسبة.
إن إقفال أسواق التصدير وأهمها سوريا والعراق أمام المنتجات الأردنية،و صعوبة الشحن إلى أسواق بعيدة نتيجة للأحداث التي تمر بها المنطقة و تراجع السياحة، ينبغي أن تكون محركا ودافعا للحكومة لإعادة النظر في موقفها إزاء كثير من المسائل الاقتصادية والإدارية والإجتماعية. كيف تتخيل الحكومة أنها ستوفر فرص العمل بعشرات الآلاف سنويا و تخفض البطالة .. كيف ستخلق فرص العمل لـ(70) ألف مواطن أردني كل عام؟ كيف ستنجح في تقليص مساحات الفقر؟ إذا استمرت أوضاع الصناعة و الزراعة بالتراجع؟ واستمرت المشاريع بالتعثر؟ كيف يمكن رفع نسبة مشاركة المرأة في قوى العمل بعد أن تراجعت إلى 11.5% من قوى العمل (و هي من أدنى النسب في العالم) دون انتعاش المشاريع الصناعية و الزراعية و دون توسعها و انتشارها ؟ كيف يمكن تنمية المحافظات و القرى والبوادي و الأرياف دون مشاريع صناعية و زراعية و سياحية مزدهرة؟ كيف يمكن ضمان الأمن الإجتماعي في مثل هذه الظروف ولدينا 3 مليون وافد منهم 1.25 مليون عامل؟ لماذا لا تفسر الحكومة للمواطنين سبب إحجامها عن مساندة الصناعة وإهمال الزراعة إلى حد التهشيم ؟ لماذا لا تتحاور مع المنتجين الصناعيين والزراعيين و يتم التوافق على حلول و إجابات مناسبة؟
مهما كانت رؤية الحكومة وتعليلاتها، و أعذارها وافتراضاتها ، فليس هناك من سبيل أو “وصفة” أخرى للمستقبل بعيدا عن الصناعة والزراعة. فهل نبدأ العمل؟ تلك هي المسألة، وذلك هو التحدي الذي نجحت فيه دول كثيرة حين توفرت لديها الرؤية والإرادة.