يرى الباحث وليد نويهض في رد على بعض الآراء الاستشراقية التي حاولت التقليل من التأسيس الإسلامي لكيان الدولة في العصر الأول بكل مقوماتها “إن محاولة إيجاد تقابل أو التفتيش عن تماثل، بين الدولة المعاصرة والدولة العربية الإسلامية” ستقع في مطب فكري لا هدف منه سوى التأكيد على مقولة أيديولوجية لا عناصر واقعية لها في التاريخ الإسلامي. فهناك أولا فجوة تاريخية (15) قرنا بين الدولة المعاصرة في نموذجها الأوروبي والدولة الإسلامية كما ظهرت في عصر النبوة. وهناك ثانيا قراءة جامدة لنظرية تطبق على واقع، ولا تنطبق بالضرورة على واقع آخر ومغاير. وهناك ثالثا اختلاف الحوادث والعوامل وهى تحتم رفض أخذ مقولات جاهزة، وغير نهائية ومحاولة تطبيقها قسراً على نمط مختف وتاريخ مختلف”. ومن هؤلاء الذين حاولوا إيجاد هذه الذرائع للاستدلال على نفي قيام الدولة العربية في صدر الإسلام الأول، المستشرق “فرد دونر” أستاذ التاريخ الإسلامي في مركز الشرق الأدنى في جامعة شيكاغو. واستنباط آراء بقياسات لا تمت للواقع الصحيح. وإشكالية بعض الباحثين الغربيين، لديهم أحكام مسبقة تجاه المجتمعات غير الأوروبية، ويضعون معايير غير موضوعية، بحكم الانحياز الفكري والإيديولوجي، ” فأغلب المؤلفات ـ كما يقول الباحث سالم يفوت ـ التي تتناول تاريخ الحضارة تعاني خللاً في المفاهيم، واستخدامها على عواهنها، فصفة “المتحضر” توزع هكذا انطلاقاً من مرجعية محددة في إطار من الحتمية التطورية البيولوجية والأخلاقية والسياسية. فقد جاء في أحد تلك المؤلفات أن “الحضارة هي النور في مقابل الظلمة التي لا يزال البدائيون يعمهون فيها” ويذهب إلى ذات الرأي مؤلف آخر يعتبر “المعجزة اليونانية” فريدة من نوعها ومنقطعة النظير على سائر الدهور بل يبحث بعض المؤرخين، أحياناً عن أصل الحضارة، وعن مصدر انبثاقها، في المسيحية ذاتها، معتبرين غيابها في بعض البلاد سبباً لما تتردى فيه من جهالة. وسواء أكان هذا أو ذاك، فثمة ميل إلى اعتبار الحضارة نشأت في أوروبا، وأن ثمة حضارة واحدة جديرة بهذا الاسم يعتبر الغرب وريثها الشرعي إذ معه يبدأ العقل والنظام والمنهج، وهي جميعاً من سمات “المعجزة اليونانية” وما عرف من علوم ومعارف وأفكار في باقي الحضارات الشرقية القديمة، ليس من الممكن بحال وضعه في مصاف ما عرفته الحضارة اليونانية التي هي أصل الحضارة الغربية. بل إن سائر الحضارات الأخرى لم ترق حسب العديد من المؤلفين الغربيين إلى مستوى ما بلغته الحضارة الغربية مع اليونان أو بعدهم”.
وهذه النظرة معروفة حتى بين المفكرين الأكثر مناصرة للعلمانية والفكر الغربي عموماً، عند مناقشتهم قضية نزعة الأحكام المسبقة، والأهواء المغرضة عند بعض الباحثين الغربيين، فيما يتعلق بالتصور التاريخي للحضارة العربية الإسلامية. فهذا محمد أركون الأكاديمي البارز في جامعة السور بون بفرنسا، يعترف بهذا النمط من الأحكام التاريخية المنطلقة من ذهنية مسرفة في الأيديولوجية الضيقة عند هؤلاء المستشرقين “عند إعادة تكوين نشأة فكرة، أو معتقد، أو مؤسسة أو علم. . الخ أن يتبعوا الخط “المستقيم” مباشرة عن الإغريق ـ الرومان والكتاب المقدس [بعد حصر هذا الأخير بالمجال الثقافي] إلى الغرب الحالي، متجاوزين حقبة تاريخية (القرن السابع والقرن الثامن) ومجالاً ثقافياً (الشرق الأوسط والغرب الإسلامي) رغم أنهما ملازمان لما نسميه بالفضاء الإغريقي السامي. ومن أبسط البديهيات التي يعرفها حتى غير المتخصص في العلوم السياسية. أن مقومات الدولة استكملت في (يثرب) -المدينة بعد ذلك- التي أقامها الرسول (ص). ثم سارت عليها الخلافة الراشدة. ومارست كل مقومات الدولة بمقاييس واقعنا المعاصر. وهي كلها اجتهادات تستمد مرجعيتها من الكتاب والسنة. و”لم تترك شيئاً مما تمارسه الدولة اليوم أو كانت تمارسه الدول في القديم إلا مارسته. حاربت وسالمت. علمت وقوّمت وهذبت. جمعت الضرائب والأموال أو جمعت الزكاة والصدقات ووزعتها على المحتاجين. بنت للمنكوبين. أرسلت البعوث تبشر بما تدين به من عقيدة. واستقبلت البعث من الملوك والأمم المجاورة لها تسمع رأيها. لم تبق شيئاً من وظائف الدولة إلا ومارسته. ومع ذلك فقد امتازت عن كثير من الدول التي عرفت بعدها. إلى أن اكتشف الناس سبب هذا التمييز فاقتبسوه منا وجعلوه شعاراً لذلك الكيان الاجتماعي الذي نسميه الدولة ذلك الامتياز كان مصدره قاعدة عجيبة في ذلك الوقت هي قاعدة تقيد الدولة بالقانون”.
وهذا ما برز في صحيفة المدينة – دستورها بمفهوم عصرنا حيث قننت مقومات الدولة والأمة في السلب والحرب. والتعاهد والتضامن والتآزر. وشمل أيضاً غير المسلمين من مواطني هذه الدولة ويختلفون مع المسلمين في الدين مثل اليهود وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً. وللحديث بقية..
عبدالله العليان/لماذا نحتمي بفكر الآخر ونتهم تراثنا الفكري بالفشل ؟
17