من شاهد اللقاء التلفزيوني للمذيع المصري وائل الأبراشي، مع والد الطفل ذي الأربعة أعوام، الذي حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن المؤبد لمشاركته في “قتل متظاهرين” في الفيوم قبل عامين، سيكتشف حجم الفضيحة التاريخية التي وقع فيها القضاء العسكري المصري، لكنها الوجه الحقيقي السافر لما آلت إليه الأمور من حالة فوضى غير مسبوقة وكارثية، حين يصل التلاعب بالقضاء إلى هذا المستوى!
حاول مسؤولون ترقيع الفضيحة بالقول إنّ المطلوب هو والد الطفل، الذي تبيّن من لقاء الأبراشي معه، أنّه على درجة كبيرة من البساطة، والبعد عن السياسة. لكن حتى لو فرضنا أن هذا التبرير السطحي صحيح، فهو تطبيق أمين للمثل العربي “جاء ليكحّلها.. فعماها”. إذ إن الحكم على مائة شخص دفعة واحدة لتبرير عملية قتل المتظاهرين، وقبلهم أحكام الجملة بالمئات إعداماً وسجناً، وموت العشرات في السجون جراء التعذيب غير الإنساني، كلّها أمارات مرعبة على انهيار غير مسبوق في الأحكام القضائية وميزان العدالة!
تأتي هذه الفضائح في الوقت الذي لم يجفّ فيه بعد دم الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي عُثر على جثته مقتولاً في القاهرة، بعدما تمّ اختطافه وتعذيبه، حتى وصف وزير الداخلية الإيطالي ما رأه من نتائج التقرير الطبي الإيطالي حول الجثّة بأنّ الطالب الإيطالي “تعرّض لعنف حيواني غير إنساني”.
وهو أمر -للأسف- طبيعي في مصر وكثير من الدول العربية، وإن بدا المشهد صادماً للإيطاليين، الذين أيّد رئيس وزرائهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قائلاً له: “حربك على الإرهاب حربنا”، وهي العبارة التي يذكّر الإيطاليون رئيس وزرائهم بها وهم يشاهدون جثة طالب الدراسات العليا الإيطالي، في حين تشير تقارير غربية عديدة بدلائل على أنّ الأمن المصري هو المتهم الأول عن هذه الجريمة، لأنّ ريجيني كان مسانداً للربيع العربي ويكتب في مجلة يسارية معارضة هي “المانفيستو”.
لا تقف حالة الفوضى عند الأمن والقضاء، بل تطاول اليوم الإعلام المصري والصراعات الداخلية. فهناك حرب مشتعلة بين أمناء الشرطة وضباطها، وهناك أيضاً تصفية حسابات بين من سمّاهم الصديق خليل العناني اليمين المؤيد للرئيس السيسي. وربما من تابع الصراع الإعلامي المفتوح بين رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور والإعلامي المعروف عمرو أديب، يشعر بالقلق الشديد من حجم الانهيارات التي تحدث اليوم في البلاد.
حتى النخبة المثقفة التي أيّدت الانقلاب العسكري، في البدايات، عادت لاحقاً لتراجع مواقفها وتنقلب على نفسها، وكان آخرهم الأديب المعروف علاء الأسواني، الذي وجد نفسه ممنوعاً من الكتابة ومحجوباً عن الإعلام، كما اعترف هو نفسه لإذاعة “بي. بي. سي”.
من الضروري أن يفهم الجميع، مما يحدث حالياً في مصر وغيرها، أنّ العودة إلى اللعبة القديمة والسلطوية العربية لم تعد أمراً ممكناً ولا منطقياً، فالنتيجة الوحيدة للثورة المضادة ضد “الربيع العربي” هي التفكك والفوضى والفشل، والدخول في دوّامة كبيرة، فقط لخدمة نخبة سياسية متضررة من المسار الديمقراطي، وعملت على تعطيله في العديد من الدول العربية.
لا الثورة المضادة اجتازت المنعطف، ولا العالم العربي بخير بعد إفشال “الربيع العربي”. وتكفي العودة إلى الدراسة المهمة للبنك الدولي التي أشار إليها د. مروان المعشر (في مقاله في “الغد” أمس)، والتي تحدثت عن الظروف التي أدت إلى “الربيع العربي” واستمرارها، لاستنتاج أنّ الثورة المضادة لا تعني إلاّ كلمة واحدة فقط وهي “الخراب”!