تتغير سياسات الدول بتغيّر قادتها أو تغيّر الظروف أو دخول سياستها في طريق مسدود. كل هذا حصل للسياسة الخارجية السعودية، وبالتالي فإن من المنطق توقع تغيّر ما على تلك الجبهة، ولكن أين وكيف ومتى؟
الطريق المسدود في الشرق العربي المتداعي لم تدخله السياسة السعودية وحدها، بل دخلته معها السياسة الخارجية الأميركية، لذلك يبدو الحديث عن خلافات بين البلدين في تناول أحداث المنطقة غير ذي جدوى، ولكننا لم نرَ أو نسمع بخلافات يوم الثلثاء الماضي، عندما وصل الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الرياض على رأس وفد عالي المستوى لم يقتصر على أعضاء من حكومته، وإنما جمع أصدقاء السعودية وأعداءه من الجمهوريين في مهمة استثنائية وهي تقديم واجب العزاء بالملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وتجديد العلاقة الاستراتيجية الحميمة في عهد ملك البلاد الجديد سلمان بن عبدالعزيز، فعقد جلسة عمل مطولة مع أركان القيادة السعودية الجديدة والتي جمعت لأول مرة ثلاثة أجيال: جيل التأسيس (الملك)، وجيل المرحلة الانتقالية (ولي العهد الأمير مقرن)، وجيل المستقبل (ولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف).
من الواضح أن أوباما والعالم معه يتعامل مع السعودية كثابت في عالم يتغير بل ينهار، ولكن هذه هي الحقيقة الوحيدة المتفق عليها، وتصبح ضبابية تماماً عندما يطرح السؤال: كيف نوقف انهيار الشرق العربي؟.
لا بد من أن هذا السؤال كان حاضراً خلال اجتماع الزعيمين، ولكن لا نعرف ما هي القضية الأولى التي ستبدأ بها عملية «وقف الانهيار»، هل بالحرب على «داعش»؟ أم وقف الحرب في سورية؟ أم باليمن الساحة الخلفية للسعودية؟ الجدل حول كل هذه القضايا وغيرها لا بد من أن ينتهي إلى حقيقة جلية، هي أن السياسات السابقة، سعودية كانت أم أميركية، فشلت في وقف الانهيار، بل إن هناك دولاً عربية توشك أن تنضم الى قائمة الدول الفاشلة، ما يستدعي البحث وتطوير سياسة جديدة، ولن يكون هذا من دون الاعتراف بأن التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث القادرة على وقف هذا الانهيار لم يكن جيداً، بل أحياناً لم يكن موجوداً، وأحياناً أخرى كان هناك تنافر وتعارض بينها. إنها السعودية وتركيا والولايات المتحدة، والأخيرة وإن لم تكن من دول المنطقة فهي حاضرة فيها وبقوة، بقواعدها العسكرية وأساطيلها ونفوذها واهتمامها ومصالحها، وقد أدى سوء التنسيق إلى توتر في العلاقات بينها جميعاً، فالتفاهم السعودي – الأميركي لم يكن في أحسن أحواله حول تفسير الربيع العربي وتداعياته، والأمر نفسه بين الرياض وأنقرة، وكذلك بين الأخيرة وواشنطن، والنتيجة هي ما نراه ونعيشه جميعاً.
يجب أن تعود السعودية إلى «السياسة الاحتوائية»، التي تميزت بها خلال عقود مضت، ونجحت بها في غير أزمة، وخير ما يشرح هذه السياسة هو «اتفاق الطائف» عام 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، حين جمعت الديبلوماسية السعودية الهادئة جميع الأفرقاء اللبنانيين، أصدقائها وأصدقاء غيرها، حتى من أخطأ بحق السعودية تلقى دعوة، وتركتهم يتفاوضون بحرية في تلك المدينة الجبلية ذات الطقس المعتدل، واكتفى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، ورئيس الاستخبارات وقتذاك الأمير تركي الفيصل، بالتدخل بالحد الأدنى لتذليل العقبات، وتقديم الحلول الوسط بعيداً عن الإعلام، ونجحوا في النهاية في تحقيق سلام لا يزال لبنان مستظلاً به على رغم الحرب السورية وتوغل «حزب الله» وتنمّره.
أما الولايات المتحدة، فهي تحتاج إلى أن تعيد الشرق العربي إلى قائمة اهتماماتها، فترددها في التدخل في سورية وإسقاط نظام وصفته غير مرة بأنه فقد شرعيته، وتعجّلها في الانسحاب من العراق وترك رئيس وزراء طائفي يمزقه، بينما تسرح إيران فيه طولاً وعرضاً، هو ما أدى إلى تمدد «داعش» وتحولها من تنظيم إرهابي إلى دولة. لقد بالغ أوباما في سياسته الانسحابية من «حروب بوش» سلفه السابق، فسحب جنوده من العراق وأفغانستان من دون خطط بديلة، والتزم بعدم التورط في صراع جديد، ولكنه اليوم مطالب حتى دولياً بضرورة العودة إلى هناك بعدما استشرى خطر الإرهاب وتجاوز حدود الشرق العربي إلى أوروبا والعالم. القاعدة القديمة تقول، إهمال قضية لن يحلها بل سيجعلها أسوأ.
تركيا، تحتاج إلى أن تنظر إلى أن علاقاتها الاستراتيجية مع السعودية أهم من مجرد نصرة تيار «الإخوان المسلمين». ذلك الانهيار أكبر من مجرد خسارة حزب حليف للسلطة، إنه انهيار دول مجاورة لها ولم يعد خافياً أن طفح هذا الانهيار وصل إلى الداخل التركي في شكل عنيف وانقسامات داخلية.
إذا كانت الحرب على «داعش» تحتاج إلى 10 سنوات كما قال وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في مؤتمر الأمن والسلام بالعاصمة الفرنسية في أيلول (سبتمبر) الماضي، فكم ستحتاج إعادة بناء العالم العربي المتداعي من جديد؟
10 سنوات أخرى بل أكثر، فلا أخبار جيدة هناك، حتى الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش العراقي وميليشيات «الحشد الشعبي»، وميليشيات الايزيديين في ديالى وسنجار ضد «داعش» واحتفى بها العالم، شابها عنف وتصفيات للمدنيين السنّة واغتصاب للنساء، إنها دورة عنف وكراهية ليست قاصرة على «داعش» وحدها. إنه داء استشرى ويحتاج إلى سنوات لاستئصاله أو تقسيم آخر للعراق. وكيف ستنتهي الحرب في سورية التي دخل الجميع فيها إلى طريق مسدود؟ اليمن مهمة بحكم جوارها للسعودية، وتوشك أن تدخل في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، ومعها ليبيا التي دخلت بالفعل في حرب أهلية. حتى مصر، فإن أوضاعها لا تبشر بخير، وأدت حماية نظامها من النقد والمحاسبة إلى أن يتوغل على الحريات، وبات سقوط قتلى مصريين كل يوم في شوارع القاهرة وبقية المدن من أجل حماية النظام خبراً عادياً، ما عمّق الانقسام والاستقطاب، وجعل المصالحة الوطنية المنشودة أصعب وأبعد، وليس هذا بالتأكيد ما تريده السعودية والولايات المتحدة لمستقبل هذا البلد المهم.
لا يوجد حل سحري لأي من هذه القضايا، بل علينا أن نتوقع الأسوأ وأنها ستبقى معنا بكل تعقيداتها وآلامها لعقود عدة. نحتاج إلى سياسة احتوائية لا إقصائية، وإعلاء قيم حقوق الإنسان وتشجيع على المشاركة. منع السلاح عن الجميع سيكون فكرة جيدة، وأخيراً غرفة عمليات مشتركة سعودية – أميركية – تركية، وظيفتها إطفاء الحرائق والمصالحة وكل ما سبق.