قبل أن أشرع في كتابة هذه السطور، التي ألحّ فحواها السوداوي على رؤيتي الشخصية، حتى قبل أن ينقضي العام المنصرم إلى غير رجعة، وددت نبذها جانباً، وإحلال مسحة من التفاؤل محل فكرتها المتطيرة من عاديات السنة المقبلة. إلا أنني فشلت، مع شديد الأسف والأسى، في إبعادها عن الذهن، صرفها عني، وترك الأمر كله لبصيص من الأمل الذي له قدرة سحرية على خلق المشاعر الإيجابية، ومقاومة الحس الثقيل بوطأة الخسائر والمصاعب الشخصية وفوق الشخصية.
وأحسب أن الجراحات الغائرة في النفوس والأبدان، التي حفل بها العام الماضي غير المأسوف عليه، ناهيك عن التداعيات التي ما تزال تهبط مدرارة من غيوم لم تنقشع بعد، لبّدت سماء الشرق الأوسط، وأرخت بظلالها الكثيفة على غيره من مناطق العالم الأخرى، لا تدع مجالاً لأشد المتفائلين بطبعهم، ولا لأخصب المبدعين خيالاً، للتعلق بأهداب الرجاء، في أن يكون عامنا الجديد مبشراً، وباعثاً على معاقرة كؤوس الأمل بسنة طيبة، مختلفة عن سابقتها، واعدة بانقشاع الغمة، والغصة والغيوم السوداء، عن سمائنا وتوقعاتنا وأحلامنا الصغيرة.
ومع أن هناك بعض الشموع القليلة، المضيئة هنا وهناك في فضاء الروح، في آفاق المرحلة، وفي عوالم البشائر الشحيحة المتفرقة، إلا أن ظلام هذا الليل العربي الطويل ما يزال كثيفاً، يقبض على النفوس بشدة، ويعتصرها قطرة قطرة، حتى لا نقول يفتتها مضغة مضغة، نظراً لعمق الأزمات المتفاقمة، وجسامة التحديات المحدقة، وضآلة الخيارات والبدائل المتاحة، الأمر الذي يترك المخاطبين بكل هذا وذاك، نهباً للهواجس المقلقة، ومحلاً للارتياب وانعدام اليقين إزاء المتغيرات المحتملة.
وبالانتقال من الأفكار العمومية المجردة، إلى حيّز الأمثلة العيانية الملموسة، يجد الرائي والراوي والمنجّم، أن المشرق العربي كله قد بات في مهب العواصف والأعاصير العاتية، من دون أن تكون لديه حوائط صد قوية، وموانع ذاتية كافية، لدرء موجات هذا “التسونامي” المتعاظم، الناجم عن الهزة الزلزالية المفاجئة، أي تلك التي بات اسمها “داعش”، وأصبح مجرد لفظها يثير الخواطر والمخاوف والإحباطات لدى كل من يرى أن معالجة هذا الخطر الداهم هي معالجة مختلة وقاصرة عن الاستجابة للتحديات الماثلة.
صحيح أن هناك استعصاءات ومصائب، ومخلفات ريح صرصر تواصل هبوبها على عموم أصقاع هذه المنطقة، منذ انتكاسة “الربيع العربي” وتحوله إلى شتاء دامٍ في غير بلد واحد؛ وأن هناك أيضاً إخفاقات اقتصادية، واحتدامات اجتماعية، واحتباسات حياتية لا حصر لها، اشتد أوارها في المرحلة الراهنة، إلا أن ذلك كله يكاد لا يشكل وزناً، ولا يمثل أهمية تذكر، بالقياس إلى ما فاءت به على الجميع، من دون استثناء، ظاهرة “داعش” الزلزالية الصادمة، خصوصاً بعد أن فشلنا في فهم عوامل نشأتها، وعجز التحالف الدولي عن اجتراح الحلول السياسية، قبل العسكرية، لمجابهتها كما يجب.
والحق، أن ما تركه لنا العام 2014 من وقائع دامية، لاسيما في العراق وسورية، وما أسفر عنه من نتائج سلبية على مختلف الصعد في المحيط المجاور، وما غمرتنا به أيامه الكالحات من معطيات وتغيرات صاعقة، هي وقائع لا تخاطب بلداً دون آخر، أو تخص فئة اجتماعية بعينها، أو تطال قطاعاً اقتصادياً وحده، وإنما أتت شاملة وكاسحة ومثيرة لأشد الاحتمالات بؤساً، ليس فقط لأرباب النهي والأمر، ومقامات النخب السياسية والثقافية والإعلامية، بل حتى للآباء والأمهات، ولمجتمعات رجال المال والأعمال، الذين باتوا يطالبون أنفسهم سلفا بتوخي الحذر، وإبداء التحوط والترقب والانتظار، وهو ما يزيد الطين المبلول بلّة.
إزاء ذلك كله، يبدو التساؤل عمن لديه الجرأة على التفاؤل بعام جديد أتى كامتداد زماني وجيوسياسي لسابقه، تساؤلاً في محله، إن لم نقل إنه سؤال استفهامي استنكاري لكل من لديه قدرة على الخروج صراحة على الناس من حوله، ليقول حتى بصوت خفيض، إن عنده قسطاً من التفاؤل، وإن في جعبة أفكاره شيئاً من التمنيات المضمخة بالأمل، وإن هناك بعضاً من الرهانات الواقعية الباقية التي يمكن التمسك بها والعمل على تحقيقها، رغم كل ما يسود المزاج العام، ناهيك عن الواقع المعاش، من توقعات متشائمة، أرجو ألا تحقق نفسها بنفسها أبداً.
عيسى الشعيبي/2015.. من يجرؤ على التفاؤل؟
12
المقالة السابقة