عروبة الإخباري –
الدستور – الروائية عنان محروس –
يرى أسامة الشاذليّ، (أستاذ طبّ العظام بجامعة عين شمس المصرية، والروائيّ الذي صدرت له عدة روايات تمّ تحويل إحداها «سنوات التيه» إلى مسلسل إذاعيّ)، أن العلاقة بين الأدب والطب وثيقة جدًا، فالطب مهنة تعتمد على دقة الملاحظة، كما الأدب الذي يحتاج أيضًا لمتابعة الأحداث والشخوص المحيطة، والتواصل الدائم وكما يقول الروائي «محمد حسن علوان» في روايته (سقف الكفاية): «الكتابة نقص المناعة المكتسبة للروح».
ومما لا شك فيه أن مصدر كليهما، الطب والأدب، الألم الإنساني والنفس التي تتوق لأجوبة عن تساؤلات مبهمة، خلال رحلتنا القصيرة على كوكب الأرض، فالكلمة أيضًا دواء ناجع للقلوب.
أبصرتُ في هذه الرواية، جيفارا الطبيب والأديب الحكيم والثائر، قد عاد إلى الكون باسم جديد، وبعض المشاعر لا يدركها إلا طبيب تعامل مع الإنسان في أضعف حالاته، لذلك كان الأقدر على سبر عمق شخوص روايته (سيدة الصحراء)، وفق مصطلحات لغوية بسيطة، لإيصال معلومة معقدة تحتاج الرويّة والتفكر، وهذه موهبة لا يمتلكها إلا من كَشفَ أسرارًا عديدة، عن الجانب الكوني، والخلق، والخالق جلّ جلاله.
وأبدأُ بمنصة العتبة الأولى، الغلاف، وهو نافذة ونص موازي للفكرة، فما زلنا نمشي على كفِّ القدر، نستطلع المسارات ما بين أربع، الخير والخيارات، الشر والمشيئة، لنعود كما كنّا منذ الأزل، مخلوقات ضعيفة، ننسل خائفين خانعين من مصيرنا المحتوم، نُرمى بداء الحيرة، لنعتاد على آثامنا، والاعتياد ليس أمانًا، بل هو فخ التكرار، الذي انغرس في عقولنا المغيّبة، ومن هنا أتى لون الغلاف الأحمر، الذي يمثل إيجابيًا، القوّة والعاطفة والثقة، ولكنه ممكن أن يكون سلبيًا ليدل على الغضب والحذر والخطر.
أضيف إليه صورة معبرّة باللون الأسود، لون يوحي بالجاذبيّة والأناقة والغموض والتمرد وربمّا الاكتئاب، لكن بقيّ اسم الروائي أبيضًا لينبعث منه خيارات حقيقية لمؤشرات شخوص الرواية، اللون الأبيض الذي يتشكل منه جميع ألوان الطيف أما العنوان «سيدة الصحراء» فهو مختلف تمامًا عمّا قد يتبادر إلى الذهن من معنى عندما يصل مسامعك فقط للوهلة الأولى، فهو رمز للسيطرة والظلم والكوارث والهيمنة الفاسدة، ومن أراد معرفة عين القصد، عليه بقراءة الرواية بتمعن ولأسماء الأبطال دلالات، من عمر الفيزيائي مخترع آلة الزمن، إلى حنين الأنيقة البسيطة الفكر رغم دراستها الطب، و يارا ومحاولة وصولها إلى قلب البطل عن طريق عقله، ووقوعها في شباك العشق مع مراد المسيحي الخلوق، والتسامح الديني المزعوم، مشاكل المخدرات والإلحاد، ووصف دقيق للشخوص الكثيرة جدًا والأماكن في الرواية، وإسقاطات عديدة على الواقع، وأحيانًا أسماء حقيقية، مثل اسم الطبيب عبد الرحمن السميط، وهو طبيب ترأس لجنة إغاثة، وإشادته بما فعل، حيث تظهر نزعة الخير والتشجيع عليه، بعيدًا عن طرق التزييف والشر والإسراف، ومشيرًا بوعي مرادف لمشاكل الحرم الجامعي، ومتاهات الحميّة، والحوار بين الإيمان والكفر المطلق، وثقافات فهم معاني الجنّة والنار، وكيفية انتشال الشباب من الضياع.
أما صخر بطل القصة، المهندس المعماري، الإنسان بكل التناقضات التي يحملها، ثاقب البصيرة، مزاجي عجول، شغوف بالبحث عن الأجوبة، ويملكُ عدل جرأة الاعترافات دون مواربة، وجهاز تحكم ذاتي ليس لأحد سطوة عليه، ومحاولاته لإيجاد فرص عادلة مصيرية عبر معالجة فكريّة للكثير من الموضوعات الدينية والسياسية، الاجتماعية، في إطار المنطق والعلوم المعرفيّة والحقائق، وكما ورد في الرواية «الأخطر من الجهل، نصف المعرفة» تسلسل سلس للأسئلة الفلسفية المرتبطة بتاريخنا المعاصر وما قبله وأيضًا ما بعده نكهة مذهلة على طبق الحقيقة للعقول الواعيّة، ونصيحة مبطنة بستار مؤشرات الواقع وأسئلة فلسفية قادرة على إعطاء صورة ذهنية واضحة ودليل مؤكد، كحكمة نزول الديانات السماوية الثلاث في الشرق الأوسط؟ وهل أرسل الله لباقي أرجاء الأرض رسلًا؟ وعدد أيام الأسبوع وعلاقتها بأجرام المجموعة الشمسية.
غيض من فيض أسئلة ورغبة بالمعرفة:
يقال من يدخل الطريق بلا مرشد، سيستغرق مائة عام في رحلة لا تحتاج سوى يومين، لذلك كثُر المرشدين في رواية سيدة الصحراء، من جد البطل إلى معلم التاريخ والشيخ والأصدقاء المؤمنين وحتى الملحدين، فكل من مرَّ في حياته، كان درسًا ومدرسًا لصخر الباحث.
هم الأكتاف المعنوية التي استند عليهم صخر خلال تجواله، و أعتقد أنه أحبّهم جميعًا، الصالح منهم والطالح، لاقتناعه بأن « حبُّ الناس من حولنا هو حب للخالق»، والأصل في كل الديانات الإبراهيمية، هو اليقين بعظمة الله الجدير بالمحبة والطاعة، وهنا التساؤل المربك للبشر، عن ماهية مغزى كل تلك الكوارث والحروب، وعند الجد الحكيم الجواب الشافي في الآية الكريمة (إنك لن تستطع معي صبرًا، وكيف تصبر على مالم تحط به خبرًا)، وفي تبرير أستاذ التاريخ، الأصل في الحياة السعادة والرحمة والله يحبنا، وهو سبحانه لا يرمي حجارة، بل المخلوقات هي من تفعل.
وأنا أزيد عليهم بقناعة، بأن التوقيت الإلهي هو ما يجعل الله سبحانه يصبر على طغيان البشر، (يوم واحد كألف سنة مما تعدون)، نحن مجرد ضيوف على مجرة الأرض، لا يتجاوز وجود المعمرين أكثر من ساعتين بالتوقيت الرباني.
لم أستطع تجنيس نوع الرواية، فقد تداخلت مساراتها بين الفلسفة والتاريخ والدين والسياسة، وبقيت الرومانسية على هوامش الرواية، فبطلها صخر لا تلهمه النساء، بل بحثه ملهمه الأول والأخير، ومجمل الرواية نبذة عن مذكراته وقصته التي تتسم بالجرأة المحمودة في عرض المواضيع الإنسانية والسياسية، حتى الحب في حياة صخر اتصف بالجديّة والعقلانية، والبحث عن السكينة لاعن المظهر الخارجي الخادع.
ليست العبرة بكيف بدأت الحكاية بآلة الزمن، بل الأهم فضولنا البشري في معرفة الماضي والمستقبل، غير مكتفين بالحاضر، ربمًا هو منجاة وقد يكون مصيدة، فما قدّره الله في خلقه واقع، والقضاء لن يغيره آلة زمنية، وهنا تكمن حكمة الرواية، ما بين النقيض والنقيض يكمن الحل، مثلًا موضوع التدين، يصبح عاطفيًا متعصبًا للأسلاف، إن لم يكن المنطق والعقل السديد يحكمه، فهل بعد البحث والجمّ من المعرفة، نستطيع أن نبني سورًا يحمينا من الفساد والجهل، أم نحن متورطون بكل الأحوال؟ هل سيعيد التاريخ نفسه مرارا وتكرارا؟، أتمنى ألا تتحقق نبوءات الروائي الدكتور أحمد عام 2039، فيما يتعلق بنيزك سيحطم الأرض، وسياسات شد الأحزمة، والثورات المتوقعة، رغم أنني كبشرية تفقه ما يحدث على وجه البسيطة، أتوقع الأسوأ، رغم الأمل الذي تجلى في نهاية الرواية
ومن وجهة نظر خاصة، عدم التقاء عمر بصخر وجهًا لوجه خلال الرواية، ماهي إلا نسيج من رفض تعامل الحاضر مع ما يخفي من المستقبل، رفض غير معلن واستهجان لما قد يكون.
عمر الراوي، صخر البطل، الروائي الطبيب أحمد، ثلاثة في روح واحدة، يتشاطرون الأفكار والتوجهات، والاختلاف بينهم فقط في التوقيت الزمني لتواجدهم ومواجهتهم للواقع المفروض.
لذلك أودُّ أن نكون بصدد رواية جديدة للطبيب الأديب أحمد يتمازج إلى درجة التوحد مع شخوصها، ربما يكون عنوانها يوميات طبيب. فقلمه البارع المبدع يجب ألا يسكن في غمده أبدًا.
كل الأمنيات بالتوفيق للطبيب الروائي أحمد محمود السالم وبانتظار المزيد من الإصدارات.