يعد العلامة الناقد المحقق المؤرخ المترجم المجمعي اللغوي الأستاذ يوسف بكار واحداً من كبار علماء اللغة العربية وآدابها في عصرنا، وأعماله وكتبه التي أوشكت على الوصول إلى مئة كتاب شاهد عدل، ودليل قاطع على ذلك.
عرف الأدب العربي في القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين مئات كبار الباحثين الذين داروا في فلك تخصصاتهم الدقيقة، ولم يخرجوا عنها إلا في القليل النادر. وعرف الأدب العربي العلماء الموسوعيين الكبار الذين لم يحبسوا أنفسهم في تخصصاتهم الضيقة، إنما انطلقوا منها إلى عالم الدراسات العربية الواسع، وكان لهم الفضل في إثراء المكتبة العربية في دراساتهم التي شملت: تاريخ الأدب، والدراسات الأدبية، والبلاغة والنقد، والسير والتراجم، وتحقيق التراث، والدراسات المعجمية، والأدب المقارن، والدراسات الفكرية، إلى غير ذلك من الموضوعات التي تندرج تحت عنوان «علوم العربية وآدابها»، وما يتصل بها ويرفدها من موضوعات.
وممن يذكر من هؤلاء العلماء الموسوعيين: شوقي ضيف، الذي تجاوزت كتبه المئة كتاب، وأصبح أكثرها ضمن المقررات الدراسية لطلاب الجامعات في البلاد العربية، وما زالت حتى الآن ذات قيمة مرجعية ولم تفقد أهميتها العلمية على الرغم من التطور والتجديد الذي طرأ على مناهج الدراسات الأدبية.
أما الموسوعي الآخر الذي نالت كتبه حظوة عند الدارسين، إذ تنوعت موضوعاتها، وتميزت بعمقها وأصالتها، فهو إحسان عباس الذي غدت كتبه في تاريخ الأدب الأندلسي، والنقد الأدبي عند العرب، والسير والتراجم، وتحقيق المصادر الأساسية للأدب الأندلسي، مثل: «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» و”نفح الطيب» وغيرها من مصادر الأندلس بخاصة، ومصادر التراث العربي بعامة، من أهم النشرات النقدية التي يتكئ عليها الدارسون منذ صدورها وحتى يومنا هذا.
وعندي أن الدكتور بكار، وبناءً على منجزاته العلمية، لاحق بشوقي ضيف وإحسان عباس الذي كان نموذجاً رفيعاً من العلماء والباحثين لدى بكار الذي خصه بأربعة من كتبه التي لا غنى عنها لدارس الفكر النقدي عند إحسان عباس.
إن جهود بكار في دراسة العربية وآدابها قد تنوعت، ومجالات اهتماماته قد تعددت، إذ شملت: النقد الأدبي، وتاريخ الأدب، والترجمة، والأدب المقارن، وتحقيق التراث، والفهارس النقدية، ودراسة الشعر والنثر، والأدب القديم والحديث، والسير والتراجم، والعروض والقافية، إضافة إلى الكتب التعليمية التي خدم بها لسان العرب.
ويحسن بنا في هذا المقام أن تكون لنا وقفة مع أهم المحاور العلمية التي اهتم بها بكار، وترك فيها من آثاره القيمة التي تداولتها أيدي الباحثين، فأقبلوا عليها، وتعددت طبعاتها التي تعهدها بكار بالإضافات والتنقيحات:
أولاً- الدراسات الأدبية، من مثل: «اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري»، و”الأدب الأندلسي»، و”غزل المكيين»، و”عصر أبي فراس الحمداني» وغيرها.
وربما كان كتاب «اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري» هو باكورة أعماله المنشورة، والكتاب رسالته الماجستير التي قدمها في جامعة القاهرة عام 1969م، وحظي بكار بإشراف الأستاذ حسين نصار على هذه الرسالة القيمة التي نشرتها واحدة من أهم دور النشر في الوطن العربي، وهي دار المعارف في مصر التي لا تنشر كتاباً إلا بعد التقييم العلمي الدقيق.
وقد أعطى بكار في كتابه «اتجاهات الغزل» صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية في القرن الثاني الهجري، ودرس اتجاهات الغزل في العصرين الجاهلي والأموي: الغزل التقليدي «مقدمات القصائد، والغزل الحسي، والغزل العفيف ومظاهره الحضارية، وتناول خصائص الغزل الفنية في القرن الثاني الهجري.
ولا ريب في أن هذه الرسالة كانت مرحلة التأسيس المنهجي للأستاذ بكار التي وقف فيها على أهم مصادر الأدب العربي، وأهمها كتاب «الأغاني» الذي قرأه بكار قراءة فاحصة، ووصفه بأنه أهم مصادر بحثه، لما وجد فيه من مادة مهمة عن الحياة الاجتماعية، وعن الشعراء وأخبارهم وأشعارهم، ووقف فيه على مادة أصيلة لا توجد في غيره من المصادر.
وفي هذه المرحلة التأسيسية من الحياة العلمية لبكار، وقف على كثير من مصادر التراث العربية وأفاد منها: ككتب الجاحظ، وابن قتيبة، ودواوين الشعراء، وتواريخ: الطبري والمسعودي والبغدادي وابن الأثير وغيرهم، ومصادر الأدب والنقد، ومعاجم الأدباء وغيرها. وقد لقي كتاب بكار «اتجاهات الغزل» اهتماماً من الباحثين والقراء، وصدرت طبعته الثالثة عن دار المناهل في بيروت عام 2009م.
ومن الدراسات الأدبية لبكار كتاب «الأدب الأندلسي» تناول فيه شخصية الأندلس، وموضوعات الأدب الأندلسي: الشعر، النثر، الموشحات، والنثر التأليفي، وأبرز أدباء الأندلس. والكتاب ذو هدف تعليمي، يفيد منه طلاب المرحلة الجامعية الأولى، وهو مجموعة محاضرات بكار التي ألقاها على طلابه في جامعة الفردوسي في مشهد بإيران عام 1973م.
ثانياً- النقد الأدبي: وهو التخصص الدقيق لبكار، والباب الواسع الذي انطلق منه إلى دراساته الأخرى، إذ قدم فيه رسالته لنيل درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة عام 1972م، وكانت بعنوان: «بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث»، فحصل بها على درجة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأولى. وقد مهد بكار لرسالته بمدخل لدراسة القصيدة في النقد العربي القديم، ثم جاءت فصول الرسالة على النحو الآتي: الأول «نظم القصيدة»، والثاني «أركان القصيدة»، والثالث «هيكل القصيدة»، والرابع «الوحدة في القصيدة». وأفاد بكار في رسالته من مصادر النقد القديم والحديث، وكان هدفه الأساس من بحثه كما يقول: «تبيين فهم القدماء لبناء القصيدة ومنهجهم فيها لا الحكم عليه، والكشف عما وجد عندهم مما يتمشى مع النقد الحديث لا الموازنة بينهما» ورسالة بكار من أهم الدراسات في مجال النقد الأدبي عند العرب، وعدت رسالة بكار إضافة إلى رسالة «الصورة الفنية» لجابر عصفور، ورسالة «الشعراء الفلاسفة» لألفت الروبي، نقطة تحول في تاريخ الدراسات الأدبية والنقدية في جامعة القاهرة، وأصبحت رسالة بكار مرجعاً مهماً لدارسي الشعر العربي، وصدر لها أكثر من طبعة.
ولبكار كتب نقدية أخرى، منها: «أوراق نقدية جديدة عن طه حسين»، و”النص الأدبي العربي قديماً وحديثاً»، و”قلادة المرجان (مفكرة نقدية)» الذي أورد فيها ثلاثة من بواكير دراساته النقدية التي كتبها بين عامي 1965-1971م، أي قبل حصوله على الدكتوراة بعام واحد، ويؤكد بكار أهمية هذه البواكير النقدية في تتبع مسيرة الناقد الأدبي؛ لأن بعض النقاد يتخلون عن محاولاتهم النقدية الأولى بحجة عدم نضجها أو اكتمالها. ويورد أيضاً في مفكرته النقدية بعض دراساته ومقدماته وحواراته النقدية التي نيفت على ثلاثين حواراً.
ولبكار كتاب نقدي آخر وسمه بـ» معهم: مقدمات وندوات وشهادات»، وفي الكتاب جهد نقدي كبير في مقدماته المركزة لعدد من الأعمال الإبداعية، وللدراسات الأدبية والنقدية، وللترجمات، وذلك في القسم الأول من الكتاب. أما القسم الثاني من الكتاب، فقد اشتمل على مشاركة بكار في ثلاثٍ من الندوات العلمية المتعلقة بالترجمة الأدبية ومشكلاتها، واللغة العربية، ودور الجامعات العربية في النهضة. واشتمل القسم الثالث من الكتاب على شهادات علمية قدمها في خمسة من كبار العلماء والباحثين، وقد تميزت شهاداته بالتكثيف، والصدق، ودقة الملاحظة، والقدرة على تصوير الجانب المعرفي والإنساني في هذه الشخصيات العلمية.
وخص بكار بدراساته النقدية واحداً من أعظم الباحثين والنقاد في عصرنا، ألا وهو الأستاذ إحسان عباس الذي أصدر عنه أربعة كتب: أولها «إحسان عباس سادن التراث»، وقد صدر عام 2001م في حياة إحسان عباس الذي هش وبش لهذا العمل. وثانيها «حوارات إحسان عباس»، وهي ثمانية عشر حواراً كشفت عن كثير من الجوانب الخفية في سيرة إحسان عباس، وعن بعض آرائه الجريئة في شتى جوانب المعرفة، والأدب، والشعر الحديث والرواية، إضافة إلى الكشف عن وفاء إحسان عباس لأساتذته وأصدقائه، وما كان لهم من فضل عليه، ودعم لمسيرته العلمية، وبوحه بمن أحب من الأدباء والمفكرين قديماً وحديثاً. وثالثها: «إحسان عباس: أعمال وندوات وحوارات»، والكتاب استكمال لكتابه السابق «حوارات إحسان عباس» مع إضافة تعليقات وملاحظات نقدية طريفة. وأما الكتاب الرابع فهو: «إحسان عباس معالم وصلات» سلط فيه الضوء على موسوعية إحسان عباس في زمن التخصصات الضيقة، وعن جهوده في دراسة التراثين: الفارسي واليوناني، إضافة إلى غوصه في علاقات إحسان عباس مع أستاذه شوقي ضيف وغيره من الأدباء، إلى غير ذلك من الموضوعات الطريفة. وذيّل بكار كتابه بما أسماه «مشروع ببليوغرافيا إحسان عباس»، وما زال اهتمام بكار بالكتابة عن عباس قائماً حتى يومنا هذا، وعنده أن إحسان لا ينسى، وهو محب وفيّ لعباس، ويدلنا على ذلك إهداؤه كتاب «إحسان عباس أعمال وندوات وحوارات» الذي قال فيه: «إلى الذين نسوا إحسان عباس في مماته، ممن كانوا يتقاطرون عليه، ويخطبون وده، ويفيدون منه، ويرجون عونه، ويدّعون وصاله، في حياته…!».
ومؤلفات بكار النقدية كثيرة، وكل واحد منها يحتاج إلى مقالة منفردة توضح ما فيه من جوانب الكشف والأصالة والإبداع، ومن هذه الكتب: «أوراق نقدية جديدة عن طه حسين»، و”مصطفى وهبي التل (عرار) أضواء جديدة»، و”البدوي الملثم (يعقوب العودات) شذور إبداع وتأليف» وغيرها.
ثالثاً- تحقيق التراث العربي: لا شك في أن تحقيق التراث العربي من أهم الدعائم التي قامت عليها النهضة الأدبية الحديثة في البلاد العربية، وكان للمستشرقين فضل السبق في نشر التراث العربي الإسلامي، وسار على نهجهم أعلام النهضة الحديثة أمثال: الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة، ومحمد كرد علي، ومحمود شاكر، وعبدالسلام هارون وغيرهم من كبار العلماء، ولذا كان تحقيق التراث من الأهداف الأساسية لمجامع اللغة العربية.
وبكار من العارفين بقيمة هذا التراث العظيم، إذ قرأه كثيراً من مصادره الأولية، وعرف قيمتها الأدبية والحضارية والتاريخية والاجتماعية. ولبكار جهود مشكورة ومعروفة لدى الباحثين في صناعة الدواوين الشعرية وتحقيقها نذكر منها: «قصيدة الناشئ الأكبر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم»، ونشرها في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني عام 1979م، و”شعر ربيعة الرقي جمع وتحقيق»، وقد صدرت طبعته الأولى عن دار الرشيد ببغداد عام 1980م، و» وشعر زياد الأعجم: جمع وتحقيق ودراسة»، وصدر عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1983م، و”شعر إسماعيل بن يسار النسائي: جمع ودراسة وتحقيق»، صدر عن دار الأندلس في بيروت عام 1988م، إلى غير ذلك من الأعمال في ميدان تحقيق التراث.
ولم تقتصر جهود بكار على تحقيق التراث، إنما له كتاب عنونه بـ”في تحقيق التراث ونقده» وقد صدر عن دار صادر في لبنان عام 2012م، ويكشف لنا هذا الكتاب اللطيف عن موقف بكار من تحقيق التراث، وعنده أن التحقيق العلمي أصعب من التأليف، يقول: «التحقيق» لا «التوريق» أمر صعب سلّمه، وعِرةٌ دَربُه، والتأليف أهون منه، وأسهل مركباً، وأطوع قياداً…»، وقد صدق فيما قال.
ويظهر بكار في كتابه دارساً وناقداً دقيقاً لبعض كبار المحققين، ولبعض ما نشر من مصادر الشعر والنثر.
رابعاً- الترجمة: غير خاف أن الترجمة من أهم وسائط التواصل الحضاري والعلمي والمعرفي بين الأمم والشعوب، وما كان لعلوم الإغريق أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا ترجمتهم لكتب الشرقيين، بل انتحالها في كثير من الأحيان. والعرب ترجموا العلوم والآداب النافعة عن اليونان والسريان والهنود، وكانت تلك المترجمات من أهم الروافد لقيام الحضارة العربية الإسلامية. وقام الأوروبيون بترجمة العلوم العربية إلى لغاتهم، الأمر الذي أدى إلى تسريع قيام النهضة العلمية في الغرب.
وقد تبين لبكار من خلال اطلاعه الواسع على التراث العربي ولا سيما ما كتبه الجاحظ في «الحيوان»، والصفدي في «الغيث المسجم» وغيرهما أن العرب قد وضعوا أصولاً منهجية للترجمة، وشرائط ومؤهلات للترجمان الذي يجب أن يكون عالماً في اللغة المنقول عنها واللغة المنقول إليها؛ لأن الترجمة فن وعلم وإبداع، وأنها ليست نقلاً حرفياً للنصوص.
وحينما عُين بكار في قسم اللغة العربية بجامعة الفردوسي في مدينة مشهد في السبعينيات من القرن الماضي، سمت همته إلى تعلم الفارسية، وتقدم فيها بسرعة، إلى أن غدا قادراً على الترجمة منها وإليها.
وأدرك بكار أن العربية بحاجة إلى من يترجم إليها من الفارسية التي تشكل مع اللغة التركية الأساس الثقافي المشترك للحضارة العربية الإسلامية، وقد ترجم عن الفارسية إلى العربية مقالة غلامحسين يوسوفي الموسومة بـ«العالم المنشود في بستان سعدي الشيرازي»، ونشرها في مجلة البيان الكويتية عام 1974م. وترجم مقالة مطولة ليوسفي بعنوان: «السياسي العجوز نظام الملك الطوسي وكتابه سياست نامه»، ونشرها في كتابه «نحن وتراث فارسي»، وترجم بكار غير ذلك من المقالات التي نشرها في المجلات العربية.
وترجم بكار من الفارسية إلى العربية كتاباً جليل القدر، عظيم الأهمية، ألا وهو كتاب «سياست نامه أو سير الملوك» لنظام الملك السلجوقي المتوفى عام 485ه/1092م، ونظام الملك هو الوزير الخطير، والعقل المدبر للدولة السلجوقية، وصاحب الإصلاحات الإدارية والعلمية والسياسية في دولة بني سلجوق.
وقد حدد بكار أهدافه ومنهجه في مقدمة طبعته الأولى «سياسة نامه»، وله الفضل الأكبر في نقل هذا المصدر الأدبي السياسي، التاريخي إلى اللغة العربية، علماً بأنه قد تُرجم إلى الفرنسية والروسية والتركية منذ القرن التاسع عشر.
وأصدر بكار الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1980م في بيروت، وتوالت طبعات الكتاب بعد ذلك، وقد سعد القارئ الأردني بنشرة وزارة الثقافة للكتاب ضمن سلسلة «مكتبة الأسرة» ذات الأسعار الرمزية.
وترجم بكار من العربية إلى الفارسية بالاشتراك مع غلامحسين يوسفي كتاب نزار قباني الموسوم بـ «قصتي مع الشعر» الذي صدرت طبعته الأولى في طهران عام 1977م، ثم طبع ثلاث طبعات أخرى.
ويندرج في الترجمة من العربية إلى الفارسية، ومن الفارسية إلى العربية ما ترجمه بكار في كتابه: «العربية للإيرانيين والفارسية للعرب»، وطبع الكتاب في جزأين، وهو كتاب تعليمي اشتمل على كثير من الألفاظ والجمل، والمصطلحات والتمارين، والحوارات العربية العربية وما يقابلها بالفارسية.
وألّف بكار كتاباً مهماً في الترجمة، وسمه بـ”الترجمة الأدبية: إشكاليات ومزالق»، وقد اشتمل هذا الكتاب على أربعة فصول:
الأول- الترجمة الأدبية ومشكلاتها.
الثاني- من جنايات الترجمة على التراكيب العربية الفصيحة.
الثالث- من مزالق الترجمة بين العربية والفارسية.
الرابع- أهم إشكاليات ترجمات رباعيات الخيام.
والكتاب يجمع بين التنظير والنقد، والتطبيق في فن الترجمة، والهدف الأساس عند بكار من هذا الكتاب هو عنايته الفائقة باللغة العربية، وحرصه الشديد على سلامة تراكيبها واستعمالاتها من العبث.
خامساً- رباعيات الخيام: نالت رباعيات الخيام، بعد أن ترجم مختارات منها الإنجليزي إدوارد فيتز جيرالد شهرة واسعة في الآداب العالمية، وترجمت إلى عدد من اللغات الحية ومنها العربية.
ونهد بكار إلى تأليف كتاب حافل وسمه بـ: «الترجمات العربية لرباعيات الخيام: دراسة نقدية»، وقد وثق في كتابه لكل الترجمات العربية لرباعيات الخيام، ونشره مركز الوثائق والدراسات في جامعة قطر عام 1988م. وقد وصف للقارئ في مقدمته لهذه الطبعة خطته التي سار على نهجها في كتابه الذي لقي تقديراً كبيراً من الباحثين العرب، فكتب عنه علي جواد الطاهر مقالة عنونها بـ «الدكتور يوسف بكار: جهد خارق»، ونشرها في مجلة الفيصل عام 1989م، وقال فيها: «لو لم يكن للدكتور بكار غير هذا الكتاب لكفاه». ونشر سليمان الأزرعي في جريدة الرأي الأردنية في عام 1989م مقالة بعنوان: «وقفة من كتاب «الترجمات العربية لرباعيات الخيام»، ووصف الأزرعي كتاب بكار بأنه الأول في موضوعه، وقال: «وإنه لمدعاة للفخر حقاً أن يضاف إلى المكتبة العربية، ثمرة شهية من جهود واحد من دارسينا وأكاديميينا الذين اعتدنا على متابعة دراساتهم القيمة دون كبير ضجيج». ونشر روكس بن زائد العزيزي مراجعة لكتاب بكار في مجلة العربي الكويتية عام 1990م، وقد وصف العزيزي منهج بكار في كتابه بأنه «يستحق الاحترام في الدقة والأمانة العلمية».
وأصدر بكار طبعته الثانية من كتاب «الترجمات العربية لرباعيات الخيام» في مجلد ضخم نيفت صفحاته على السبعمئة والخمسين صفحة، أي ضعف حجم الطبعة الأولى بعد مداخل تنويرية وزيادات وإضافات كثيرة لمادة النشرة الأولى من الكتاب.
ولا يتسع المقام للحديث عن إصدارات بكار التي وصلت إلى ستة وعشرين كتاباً في ميدان الرباعيات، وهي أعمال أصيلة وغير مسبوقة، ولو طبعت مجموعة لجاءت في موسوعة ضخمة في بضعة مجلدات، وحبذا لو تبنت وزارة الثقافة الأردنية مشروع حشد هذه المؤلفات، وأصدرتها في موسوعة تسمى بـ «موسوعة رباعيات الخيام»، أو «الموسوعة الأردنية لرباعيات الخيام». وإذا ما تم إنجاز مثل هذا العمل فإنه سيكون مأثرة ثقافية تفوز الأردن بقصب السبق فيها على مستوى العالم؛ لأن الخيام أديب عالمي ترجمت رباعياته إلى كثير من اللغات الحية؛ ولأن بكاراً أصبح الباحث الحجة والمصدر الأول في موضوع رباعيات الخيام على مستوى العالم.
سادساً- الأدب المقارن: ويبدو أن عناية بكار بالأدب المقارن جاءت بعد دراسته اللغة الفارسية وتدريسه مقررات اللغة العربية لطلاب مرحلة الليسانس في جامعة الفردوسي في مشهد في سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى عنايته بآداب الفرس، ووقوفه على كثير من الصلات بينها وبين الآداب العربية، وجهوده الواسعة في دراسة الرباعيات التي هي أدخل ما تكون في باب الأدب المقارن، إضافة إلى عنايته الواسعة بالترجمة.
وألف بكار في الأدب المقارن خمسة كتب أولها كتاب «الترجمات العربية لرباعيات الخيام: دراسة نقدية»، وقد أصدره عام 1988م. وثانيها: «جماعة الديوان وعمر الخيام» الصادر عام 2004م. وثالثها: «في دائرة المقارنة» الصادر عام 2013م. ورابعها: «ريادات منسية في الأدب العربي المقارن» الصادر عام 2017م. وخامسها: «في الأدب المقارن: مفاهيم وعلاقات وتطبيقات» الذي أصدره عام 2017م، وامتاز هذا الكتاب بتركيزه وبعده عن الحشو والاستطراد التي نشهدها في كثير من كتب الأدب المقارن المؤلفة بالعربية.
وقد تناول بكار في كتابه السالف الذكر بعض الإشكاليات والمفاهيم التاريخية في الأدب المقارن، وعرف بستة مفاهيم ومصطلحات ذات صلة بالأدب المقارن، ووقف عند أهم مناهج الأدب المقارن، ودرس جوانب من الصلات بين الأدب العربي القديم والآداب الفارسية واليونانية، وقدم نماذج من تأثير الأدب العربي في الآداب الأوروبية، وختم الكتاب بتطبيقات مقارنية قديمة وحديثة. وقد اتسم هذا الكتاب بالتركيز والإيجاز وحسن التقسيم والتبويب، ولذا وجد فيه مدرسو الأدب المقارن كتاباً مناسباً لتدريس مقرر الأدب المقارن في مرحلة البكالوريوس وكاتب هذه السطور واحد ممن يدرسونه لطلابهم.
ومما يسجل لبكار في ميدان الدراسات المقارنية أنه أثبت «أن الأدب المقارن عند العرب كان شرقياً شرقياً، وكان أمين الريحاني رائده الأول تنظيراً وتطبيقاً في مقارناته الرائدة بين عمر الخيام وأبي العلاء المعري عام 1903م، بعد أن ترجم عدداً من رباعيات للمعري إلى الإنجليزية».
سابعاً- التراجم والسير: لم يغب فن السيرة الذاتية عن اهتمامات بكار، وكتب لنفسه سيرة ذاتية مختصرة هي «ذاكرة إنسان»، ركز فيها على جهوده العلمية، ودراساته التي نالت قسطاً وافراً من العناية عربياً وعالمياً. وألقى محاضرة قيمة في مجمع اللغة العربية قبل بضعة أسابيع عنونها بـ «تجربتي مع العربية» وتعكس المحاضرة جهوده وجهاده في نشر العربية والدفاع عنها، ومشاركاته الفاعلة في الحوارات والندوات والمؤتمرات، ولن يعدم القارئ لمؤلفات بكار شذرات وطرفاً كثيرة من سيرته العلمية.
وفوق ذلك، فإن بكاراً قد كتب أربعين سيرة علمية مختصرة لأدباء العربية منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، ونشرها في الموسوعات والقواميس العربية، وجمع بعضها في كتابه «مبدعون ومبدعات: تراجم وتنويرات نقدية» الذي صدرت طبعته الأولى عام 2015م، علماً بأن بكاراً لم يقتصر في ترجماته للمترجمين على التعريف بهم، ولكنه أضاف إلى ذلك «تنويرات نقدية مهمة كاشفة عما في أعمالهم من سمات في المضمون والفن».
ثامناً- صناعة الفهارس والببليوغرافيا: إن دأب بكار في البحث، وحرصه على الاستقصاء الهائل للمصادر والمراجع، وتعدد اهتماماته، وطول صبره ومعاناته في أبحاثه، قد دفعه إلى وضع بعض الببليوغرافيات النقدية لتكون بمثابة المفاتيح العلمية لما هو بصدد دراسته وبحثه، ومن أعماله في هذا الميدان: «عمر الخيام والرباعيات في آثار الدارسين العرب»، و«جلال الدين الرومي في آثار الدارسين العرب»، و«مستدرك على كتاب فهارس المخطوطات العربية في العالم»، و«ببليوغرافيا إحسان عباس» وهي ملحقة بكتابه «إحسان عباس: معالم وصلات»، و«ببليوغرافيا يعقوب العودات» وهي ملحقة بكتابه «مبدعون ومبدعات».
تاسعاً- الدراسات اللغوية: لم يكتب بكار في نحو العربية ولا في صرفها، على الرغم من أنه دَرّس النحو والصرف في جامعة الفردوسي في مشهد، ولكنه كتب عدة أبحاث في اللغة، أولها: «لغة القرآن: مقاربة تذكيرية عامة»، وكتب بحثاً ثانياً بعنوان «اللغة العربية في العالم الإسلامي: الانتشار والمشكلات والتعزيز»، وبحثاً ثالثاً بعنوان: «اللغة العربية ركن في ثقافة الأمة وهويتها».
وشارك في كثير من الندوات المتعلقة باللغة العربية، وكان رئيساً لواحدة من أربع لجان شكلها مجمع اللغة العربية الأردني لإعداد «معجم ألفاظ الحياة العامة في الأردن».
وأقنع الإيرانيين بأهمية تأسيس قسم للغة العربية في جامعة الفردوسي في مشهد، ووضع أكثر مقرراته ودرّسها، وأثرى اللغة العربية بروائع ترجماته من الفارسية. وبكار متمسك أشد التمسك بأصول العربية نحواً وصرفاً وأسلوباً.
وبعد، فإن هذا العرض السريع لأهم محاور اهتمامات بكار في النقد والأدب، واللغة والترجمة، وتاريخ الأدب، والأدب المقارن، والتراجم والسير وغيرها يمكننا من القول: إن بكاراً قد جمع بين الكيف والكم، والأصالة والعمق، والتعدد والكثرة، وقد قاربت مؤلفاته المئة كتاب، التي أصبح كثير منها مصدراً للطلاب والباحثين من العرب وغير العرب، وأصبح بكار رمزاً من رموز الثقافة العربية، وغدت إنجازاته مفخرة من مفاخر الأردن في البحث العلمي والأدبي، وبناءً على كل ما تقدم، ألا يحق لنا أن نقول: يوسف بكار باحثاً موسوعياً.
3
المقالة السابقة