عروبة الإخباري –
قبل سنوات، عملت أم تيسير على توفير مساحة آمنة لأطفالها داخل المنزل، من خلال فصل مقتنياتهم عن باقي محتويات المنزل، ووضعها داخل بيت بلاستيكي اقتنته من سوق شعبي مقابل مبلغ زهيد، حسب تحقيق لقناة المملكة.
بعد أيام لاحظت أم تيسير (40 عاما) رائحة نفاذة تنبعث من الغرفة، وهي أشبه برائحة البلاستيك، فما كان منها إلا جمع الألعاب البلاستيكية وغسلها على أمل التخلص من رائحتها، لكن بعد ساعات لاحظت أن الرائحة ما تزال عالقة.
تقول أم تيسير: “كانت شكوك تراودني أن هذه الألعاب غير آمنة على أطفالي، فالرائحة المزعجة سكنت معهم داخل الغرفة التي ينامون بها، فقررت حينها أن أحمل جميع الألعاب البلاستيكية لأتخلص منها خارج المنزل، وحاولت استبدالها بألعاب خشبية”.
شكوك أم تيسير راودت قبل سنتين باحثين في شبكة ipen التي تعمل منذ تأسيسها على تعزيز السياسات العالمية والوطنية المتعلقة بالمواد الكيميائية والنفايات، فعملت على إطلاق دراسة عالمية عشرات الجمعيات حول العالم، بقصد البحث عن وجود مواد كيميائية سامة في ألعاب أطفال.
تقول منسقة الشبكة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سامية الغربي، إن “الهدف الرئيس من عمل الشبكة الوصول إلى عالم صحي، لا يتم إنتاج المواد الكيميائية به بطريقة خاطئة، أو استخدامها بطرق تضر بصحة الأنسان والبيئة. نحن نسعى للوصول إلى مستقبل خال من السموم للجميع”.
يكشف هذا التحقيق الاستقصائي لـ “المملكة”، عن انتشار ألعاب أطفال بلاستيكية مقلدة، وأدوات مطبخ، ومنتجات استهلاكية أخرى، صنعت من نفايات إلكترونية ومواد منتهية الصلاحية دون مراعاة الاشتراطات الصحية والبيئية أو حتى القوانين الدولية.
عام 2022، عُرض على عروب الرفاعي، صاحبة جمعية أيادي للبيئة والتنمية المستدامة، المشاركة في دراسة عالمية لتقييم إذا ما كانت مثبطات “اللهب المبرووم” الموجودة في النفايات الإلكترونية وهي “مواد كيميائية سامة”، يتم نقلها إلى منتجات استهلاكية جديدة بسبب إعادة تدوير البلاستيك بدلا من إتلافه في ظروف آمنة.
تقول الرفاعي: “تخضع عملية اختيار العينات لمعايير مخبرية دقيقة، ومواصفات محددة تصلنا من مختبرات الارنيكا في التشيك، فكانت المتطلبات البحث عن ألعاب سوداء اللون، ذات رائحة نفاذة وهي رائحة البلاستيك المتعارف عليها، إضافة لزهد ثمنها، أي أنه لم يتم معالجتها بطريقة علمية صحيحة للتخلص من النفايات الأخرى قبل إنتاجها على هيئة منتج جديد”.
“لم تكن هذه الدراسة غريبة، أو غير مألوفة في كتب العلم، فما وجدناه خلال بحثنا، العشرات من الدراسات التي تؤكد وجود متبقيات مواد كيميائية داخل ألعاب الأطفال”، هذا ما يؤكده مساعد المدير العام لشؤون المرضى في مؤسسة ومركز الحسين للسرطان منذر الحوارات. ويضيف: “هناك الكثير من الدراسات التي نشرت على مدار السنوات الماضية تتحدث عن مضار البلاستيك المعاد تدويره من نفايات إلكترونية حول العالم، وهي تلقي الضوء على منطقة مهمة، وخطيرة، وهي ألعاب أطفالنا”.
“داخل إحدى المختبرات الجامعية في مدينة براغ، يعمل مختبر جمعية الأرنيكا، وهو مختبر معتمد من الجهات الرسمية، يقوم بإجراء اختبارات مختلفة للسلع الاستهلاكية، وكذلك العينات البيئية للملوثات العضوية الثابتة والملوثات البيئية الأخرى”، وفق ما قالته لـ “المملكة” الباحثة العالمية في الشبكة الدولية للقضاء على الملوثات جيتكا ستراكوفا.
وتضيف: “كانت مختلف المنظمات المشاركة في الشبكة الدولية للقضاء على الملوثات تبحث في أسواقها عن ألعاب بلاستيكية صلبة مصنوعة من البلاستيك الأسود، لأننا كنا نحاول تحديد المواد البلاستيكية التي تأتي من الإلكترونيات المعاد تدويرها فحسب، ولنتأكد من خلوها من الملوثات العضوية الثابتة”.
“تعرف الملوثات العضوية الثابتة على أنها عبارة عن مواد كيميائية سامة، وهي تختلف عن باقي الكيميائيات بثلاث صفات، فهي تراكمية، أي أنها تتراكم في جسم الإنسان، وثابتة، فهي لا تتحلل بسهولة في البيئة، وقد تبقى لعقود من الزمن، وهي أيضا متنقلة، تنتقل مع الطيور المهاجرة، وعبر الهواء، وحتى التربة، وفي بعض الأحيان تنتقل في المنتجات الزراعية وتدخل في السلسلة الغذائية للإنسان”، على ما تقوله الرفاعي.
المحامية المتخصصة في القضايا البيئة، إسراء الترك، تقول “تتواجد هذه الملوثات بنسب كبيرة في الأجهزة الكهربائية، والإلكترونيات، والمركبات المتنقلة، وهي تهدف إلى تثبيط عمليات الاشتعال، لأنها تكون على تماس مباشر مع الوقود والكهرباء، لذلك يتم إضافتها لغايات السلامة، لكن أثناء عمليات تدويرها العشوائية، تصنع منها ألعاب الأطفال، والملابس، وحتى أدوات المطبخ”.
وتعمل وزارة البيئة، وفق أمينها العام محمد الخشاشنة، على “التأكد من أن المواد التي تدخل في صناعة السلاسل الغذائية أو الألعاب آمنة ولم يتم إعادة تدويرها بأي شكل من الأشكال، فهي تشكل خطورة على الأطفال والنساء وكبار السن”.
ويضيف: “تنشط مؤسسات الدولة على اختلافها بالرقابة على تصنيع ألعاب الأطفال، ودخولها إلى الأسواق، ومن شدة حرصنا أوجدنا لجنة مكونة من مؤسسة المواصفات والمقاييس، ووزارة الصحة، والمؤسسة العامة للغذاء والدواء، بهدف التأكد من سلامة الألعاب في الأسواق المحلية، ووضع مواصفات خاصة لدخولها”.
“تعتمد المواصفات الأوروبية لدى الجهات الرقابية في فحص الألعاب، ويتم إجراء الفحص لما يقرب 18 عنصرا منها الرصاص والكروم والباريوم … للتأكد من أن الألعاب تحوي النسب المحددة بالمواصفة، وفي حال احتواء اي لعبة على أحد العناصر بنسب أعلى، لا يسمح بدخولها، ويتم رفضها وإعادة تصديرها، أو إتلافها والتخلص منها”، كما تؤكد مساعد المدير العام للشؤون الرقابية وفاء المومني.
“لا يوجد في الأردن شهادة متخصصة، أو رخصة تسمع باستيراد ألعاب الأطفال فقط، فيستطيع أي شخص إضافة غايات الاستيراد والتصدير إلى سجله التجاري، استيراد الألعاب على اختلافها، وبالكميات التي يحتاجها لتغطية الأسواق المحلية، وهذا ما كان سببا في انتشار ألعاب غير مطابقة للمواصفات في الأسواق”، كما يؤكد نقيب تجار الألعاب يوسف أبو السيلات.
و”يقوم ثلة من مستوردي النثريات … بإدخال بضائع غير مطابقة للمواصفات والمقاييس في بلدها الأصلي، فبعد رسوب فحص هذه البضائع في المختبرات ورفض دخولها لبلدان معينة، يتم إدخالها إلى أسواقنا المحلية وبيعها بسعر زهيد للمواطنين”، كما يؤكد أبو السيلات.
ألعاب مسمومة
بعد أشهر جاءت نتائج الدراسة لتؤكد شكوك الدارسين، فيتم تحويل النفايات الإلكترونية الخطرة إلى منتجات استهلاكية جديدة للأطفال، وإرسالها إلى الأسواق العربية، والإفريقية، بدلا من التخلص منها في ظروف أمنة لا تلحق الضرر بالحجر والبشر.
تشرح مؤسس جمعية أيادي للبيئة والتنمية المستدامة عروب الرفاعي نتائج الدراسة بالقول: “النتائج التي تخص الأردن كانت هناك لعبة على شكل ‘سيارة سوداء‘ احتلت المركز الأول مقارنة بأحد عشر دولة بالعينات احتوت على أعلى معدل من المواد الكيميائية السامة، كما عثر على وجود لديوكسينات، وهي أيضا ملوثات عضوية ثابتة، تدخل في المنتجات بشكل غير مقصود عن طريق الاحتراق، وعملية الصناعة”.
لعبة “الكيوبك” المرتبة الأولى في الأردن ثم كينيا بأعلى مستويات لسمية الديوكسينات بحسب الرفاعي.
ما كان لافتا في التحقيق تضارب آراء الجهات الرسمية حول إجراء فحوص مخبرية للتأكد من خلو الألعاب من مثبطات اللهب ما قبل دخولها إلى الأسواق المحلية.
فوفق مساعد المدير العام للشؤون الرقابية وفاء المومني، “لا يتم فحص مثبطات اللهب في الألعاب، فالمختبرات الوطنية المحلية لا تتوفر لديهم القدرة على إجراء هذه الفحوص، وهي بالأصل غير موضوعة في اشتراطات الدخول إلى الأسواق من عدمه”.
لكن أمين عام وزارة البيئة محمد الخشاشنة أكد إجراء الفحوص لمثبطات اللهب للألعاب على وجه الخصوص ما قبل دخولها إلى الأسواق المحلية.
وبحسب عميد كلية العلوم سابقا في جامعة مؤتة محمد عنبر “فلا يوجد عمر افتراضي لانتزاع المواد الكيميائية من ألعاب الأطفال، وقد تتحول بفعل بعض العوامل البيئية المساعدة إلى مواد أشد خطرا وضررا…” ويضيف “حتى تنتهي المادة البلاستيكية من نفسها، تحتاج إلى مئات السنين، وقد تتحول من شكل إلى آخر، لكن يبقى الضرر كما هو”.
ويوضح عنبر “هذه المواد تنتقل للأطفال عبر الفم وبشكل مباشر حال تم وضعها، أو عبر اللمس وهي عملية الامتصاص، ثم إلى الخلايا، ثم الدم، بالتالي تؤدي إلى أضرار صحية، وقد تؤثر على الجهاز التناسلي للشخص، كما أنها تؤثر على جهاز العصبي من حيث فرط الحركة خاصة عند الاطفال وتؤثر بشكل غير مباشر على الكبد والكلى”.