اسمحوا لي أن أصحح معنى من معاني العلوم السياسية وأعراف الدولة وهو خطأ شائع في عهد ما بعد ثورات الربيع العربي في كل الأدبيات المتداولة في المجتمعات العربية ففي تونس ومصر وليبيا واليمن نلاحظ في السلوكيات والمواقف وحتى في سن قوانين جديدة خلطا بين من خدم الدولة في العهد السابق ومن خدم نظام استبداد فنجد حشر الوزراء والسفراء وكبار الموظفين في كيس واحد دون ذنب اقترفوه وهو ما يفرغ الدول بعد انتفاضات الشعوب من كوادر خبيرة ومجربة. بينما الحقيقة الدستورية والدبلوماسية إذا ما اعتمدنا النموذج التونسي هي أن لتونس حوالي 80 سفيرا للجمهورية التونسية لدى الدول الشقيقة والصديقة وذلك منذ العصر القرطاجني إلى العصر الإسلامي وصولا إلى الدولة التونسية في عهد الأسرة الأغلبية ثم الحفصية إلى العائلة الحسينية فدولة الاستقلال مع الزعيم بورقيبة إلى الثلاثة والعشرين عاما من حكم زين العابدين بن علي حتى بلغنا عهد الترويكا وهو يشكل مرحلة مؤقتة سوف تستقر بعدها الدولة التونسية الوطنية على أسس أرسخ وأطول عمرا. في كل هذه العهود المتعاقبة يجب الفصل بين الدولة والنظام. والخلط بينهما يفضح إما جهلا بالسياسة والتاريخ أو تحاملا إيديولوجيا موجها لضرب مؤسسات الدولة. فالسفير عندما يقسم أمام الملك (الباي) سابقا أو الرئيس منذ 1957 إلى اليوم فهو يقسم على الإخلاص للوطن وخدمة مصالحه والتفاني في رفع راية البلاد وهو بذلك لا يخدم “نظاما” وفي عهد بن علي كان هناك نظام أشبه بمنظومة فساد عائلية لكن كانت أيضا لدينا دولة بتراثها العريق ومؤسساتها المحايدة وجهازها الإداري وأنا أعتبر أن هذه الدولة هي البطل الأول للثورة التونسية لأنها أدت دورها الوطني كاملا في ظروف انهارت فيها المنظومة الفاسدة وانفلت الأمن فلم يقطع الماء ولا الكهرباء ولا أوصدت البنوك ولا انقطعت الرواتب ولا معاشات التقاعد ولم يغلق المستشفى ولا المدرسة ولا الجامعة ولا تعطلت مؤسسات الجيش والأمن والجمارك ولا الشركات الوطنية ومنها الطيران والسكك والتأمين. هذه هي الدولة التي مثلتها أنا وغيري من السفراء في دول العالم ما عدا قلة قليلة استثنائية من الدخلاء على الدبلوماسية التونسية ربما كانوا أقرب للمنظومة منهم إلى الدولة. وبما أن للدولة رمزا هو ملك أو رئيس فهو الذي يسلم لنا أوراق اعتمادنا كما أني أضرب مثل بطلنا الأولمبي أسامة الملولي الذي رجع بميدالية ذهبية من بيكين فأهداها رمزيا إلى زين العابدين ورجع بعد أربع سنوات من لندن بنفس الميدالية فأهداها رمزيا إلى منصف المرزوقي وأملي أن يعود بعد أربع سنوات بميداليات أخرى فيهديها إلى رئيس أو رئيسة المستقبل في قصر قرطاج. هذه هي الدولة وهي تختلف جذريا عن المنظومة التي شكلها أفراد من بطانة بن علي وأصهاره لكن المنظومة لم تؤثر على سير الدولة إلى درجة انهيارها أو إضعافها أو تغييبها. فالذي وقع في العراق سنة 2003 مع (بريمر) هو القضاء على الدولة العراقية عوض القضاء على منظومة صدام حسين فدمر الأمريكان وحلفاؤهم العراقيون مؤسسات الجيش والتعليم والصحة والمتاحف والمصارف وموارد الطاقة والنتيجة كما نراها اليوم هي حالة اللادولة أي إن العراق انتقل من حالة دولة الاستبداد إلى حالة اللادولة وهو ما أخشاه على وطني وأذكر بما كان نصح به المناضل العظيم نلسن مانديلا حكام تونس ومصر في شهر فبراير 2011 حين قال لهم: لا تبنوا الدولة الجديدة على الفراغ وعلى الحقد والانتقام. ورجل في مثل قامة مانديلا لا ينطق عن عاطفة بل عن تجربته الناجحة في جنوب إفريقيا حين كلف القس إدموند توتو برئاسة لجنة الحقيقة والمصالحة فضمدت الجراح وحاسبت الظالمين بالقضاء العادل لا بالقوانين الاستثنائية والإقصاء الظالم. وأنا حتى في معارضتي لمنظومة الفساد والاستبداد مع قلة من الأصدقاء منذ 1986 لم أقطع الاتصال بالعاملين في مؤسسات الدولة وتحملت نصيبي من التضحيات فنفيت وتشتت أولادي ولوحقت لمدة 13 عاما من قبل الإنتربول ثم حرمت من رؤية بنتي الاثنتين إيناس وسيرين لمدة تسعة أعوام فقد تركتهما سنة 1990 طفلتين ولم أرهما إلا سنة 1999 وهما شابتان وكذلك والدتي الحاجة السيدة رحمها الله فلم ترني ولم أرها لمدة تسعة أعوام أيضا لدرجة أني عندما رجعت إلى تونس في أغسطس 1999 لم تعرفني أمي بين إخوتي وشاركت المناضلين من كل الاتجاهات شرف مقاومة الاستبداد إلى غاية مارس 2006 حين شاركت في برنامج الجزيرة (ما وراء الخبر) وانتقدت تواصل سجن الإسلاميين فأطلق بن علي يوم الغد سراح 70 سجينا لكن الآلة الدعائية الرهيبة أكلت لحمي حيا وهتكت عرضي بالأراجيف من الغد كما فعلت صحافة المجاري معي ومع غيري لمدة عقدين وصودرت جوازاتي أنا وأولادي عام 2006 وحرموني من حضور زفاف بنتي سيرين حيث أسمعوني الزغاريد بالهاتف وأنا في باريس ثم إني أصدرت كتابي (ذكريات من السلطة إلى المنفى) في مارس 2005 وفيه انتقاد وتنديد بسياسات وتسلط بن علي وهو ما يزال في السلطة أي أني نشرت كتابي في حضرة السلطان الجائر لا بعد سقوطه كما فعل الكثيرون من “أبطال” 14 جانفي الساعة 6 وربع. أما قبولي للسفارة في قطر فأنا لم أتردد لحظة لأني أدرك أهمية علاقاتنا مع قطر ولأني عشت فيها 15 سنة وأسهمت بدوري المتواضع في مجتمعها المدني وسمو الشيخ حمد أكرمني وأواني سنة 1990 عندما كنت مطاردا من الإنتربول وكنت أعرف أن قطع علاقاتنا بقطر يتضرر منه الشعب التونسي فقمت بما أملاه علي ضميري بتسليم جوازات سفر للمحرومين منه (ومنهم أعضاء في قيادات بعض الأحزاب اليوم) وسلمت تأشيرات دخول تونس لقناة الجزيرة فحضرت تلك القناة الشهيرة وغطت أغلب مراحل الثورة وقمت بعقد 16 اتفاقية بين الوزارات التونسية والقطرية وازداد عدد المواطنين التوانسة العاملين في قطر والحمد لله فقد كنت سفير دولة راسخة عريقة وواصلت بطريقتي ومبادئي مناهضة الفساد والاستبداد من ذلك الموقع. ونحن في تونس أرجو ألا ينجرف مضطهدو الأمس إلى اضطهاد مسؤولي الأمس دون حكم قضاء وأنا أعرف العديد ممن كانوا وزراء بن علي أو رؤساء خلايا دستورية في الأرياف خاصة وخدموا مصالح مواطنيهم بما توفر لهم من إمكانات وكانوا يتقون الله في مواطنيهم. إن الدولة تبقى دولة ومنظومة الفساد زائلة بزوال أسباب الفساد.
أحمد القديدي/الفرق بين الدولة والنظام
14
المقالة السابقة