نبيل حداد*
لا أجد استهلالاً لهذه المقدمة أنسب من قول أحد النبلاء، في مسرحية لشكسبير: “إذا المرء أعوزه من يذكر ما له.. فليذكره هو” إذاً لا بأس، بل من حق صاحب التجربة الغنية، ومن حق الناس عليه أن يكتب عن هذه التجربة، ولا سيما إذا كانت سلسلة عن المآثر حرص البعض على النيل منها، أو التقليل من شأنها في حينه، أوبعد ذلك الحين.
بين أيدينا اليوم سفر مهم أقرب أن يكون إلى السيرة الذاتية التي لا تقتصر غايتها على عرض تجربة صاحبها عبر نصف قرن هي عمر تجربته في ميدان الحياة العملية بل قل في مقارعة العقبات الطبيعية والمصطنعة في ظروف مواتية أو غير مواتية، لا يهم فالأمور بخواتيمها كما يقولون وقد ظلت الخواتيم دوما تشهد للرجل بقوة الشكيمة ومضاء العزيمة والصبر الجميل على الشدائد، والعمل دون كلل ودون غرض إلا حب
——————————
*أستاذ في جامعةاليرموك/ شاغل كرسي عرار للدراسات الثقافية والأدبية.
العمل نفسه والالتزام بما يرضي الضمير ويشبع النزوع نحو الكمال في كل ماعُهد به إليه من من مسؤوليات بل ما باشرت يداه من مهام.
ما يقدمه مازن العرموطي لنا بين دفتي هذا الكتاب يتسم بنزاهة وموضوعية وبكل الأدوات التعبيرية المتاحة من مادة مكتوبة أو رواية مسموعة ولكن موثوقة من جانبه على الأقل، ووثائق وصور ورسوم وتشكيلات ولوحات… وذكريات، والأهم من كل ماسبق من مشاعر الصدق والأمانة والإحساس بالواجب أمام الضمير والمجتمع للسعي إلى تقديم الرواية الصحيحة للدور المؤثر لصاحب هذه السيرة، سواء على صعيد العمل العام، أو في البعد الإنساني الثري لهذه التجربة.
شخصية متعددة الجوانب
نقرأ في هذا الكتاب جوانب متعددة في شخصية صاحبها، الجانب الشخصي والجانب العام الذي تبرزه ما اضطلع به من مسؤوليات حساسة في العمل الرسمي المعلن وفي المهام السياسية غير المعلنة التي كلف بها من أعلى المراجع، ونطّلع على حقائق الوجه الآخر للظروف التي أحاطت بإنشاء عدد من المؤسسات الأكاديمية والعلمية والثقافية قد لايكون مصدره الرواية الرسمية، بل إن ما يرد في هذا الكتاب يأتي في سياق التجربة الشخصية المباشرة، وهنا يمكن القول أن من الصعب أن نفصل الجانب العام عن الجانب الخاص لدى شخصية من مثل الدكتور مازن العرموطي، لا سيما أنه يقرر بنفسه وكما يشهد على ذلك تاريخه، أن العمل العام بالنسبة اليه هو متعته الرئيسية وفي سيق العمل وضمن مندرجاته تأتي المباهج الأخرى في الحياة، وهكذا فإن من الصعب أن تنفصل ممارسات حياته العادية عما ينخرط به مما أسند إليه من مهام رسمية. فكنت ترى قرينته الأستاذة سيرسا كانت برفقته على الدوام، وفي أحيان كثيرة كان محمد وفرح وياسمين في المعية، هنا في ورشة العمل في إربد كانت تنتقل الأسرة وكان جو العمل ممارسة أسرية فعلاً لا قولاً. وقد أسعفني الحظ أنني كنت قريباً منه في معظم مهامه الرسمي داخل الأردن. بل كنت لصيقاً به، ونائباً له في قسم الصحافة والإعلام، وأزعم أن مارد في الكتاب وكنت شاهداً عليه- وهو كثير- لا يعرض إلا جزءاً يسيرا من حجم عمله وضخامة إنجازه.
في هذا الكتاب نطلع على أوجه عديدة لشخصية لا نتردد في القول إنها استثنائية في كل مجال حلت فيه، نعم؛ فهناك خمسة أوجه على الأقل نستطيع أن نطل من خلالها على هذه الشخصية،
أولها الجانب الأكاديمي، ، فالأكاديميا ليست محاضرة تلقى ودروساً تلقّن، أو حتى بحثاً ينجز، أو ورقة بحث تعد لتتلى في مناظرة علمية أو في محفل عام؛ فشخصية الأكاديمي رسالة قيمية وقدوة سلوكية ودور حضاري، ولقد كان اللقاء العلمي بين مازن وطلابه ومريديه، محاضرة كان أم ندوة، مجلسا كان أو لقاء إعلامياً حدثاً ثقافياً وعلمياً وإنسانياً بالنسية لهؤلاء المريدين أو الطلبة
أما الجانب الثاني ذو الصلة من شخصية مازن فلنقل إنه الجانب العلمي المنهجي، لقد لقد كانت قناعة مازن الشديدة إلى درجة العقيدة الراسخة بأن ما يتعلمه هذ الجيل الواعد من الإعلاميين في الكتب أو الممارسة الأكاديمية ينبغي أن يجد تجلياته على الأرض، ولا سيما أنه اختار تخصصاً يدخل في حياة كل الناس، ويسهم في صياغة أفكارهم، جيل يراهَن عليه في عملية النهضة العلمية والمهنية التي شهدت طفرة غير مسبوقة في الثمانينيات والتسعينيات تبشر بمرحلة جديدة، بل بواقع جديد في حقول العمل الإعلامي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي في منعطف القرن.
وثمة جانب آخر ثالث في شخصية مازن، هو الجانب الإنساني، جانب لا يتخاذل فيه لنجدة صديق أونصرة ضعيف ماوسعه الأمر و ما قد تسمح به الظروف أو تمتلكه اليد، لا يعرف سوى الوفاء، ويذهب في الاتجاه الكريم إلى آخر الشوط، ولكن ضمن مبدأ: “تراعيني قيراط أراعيك قيراطين”، هذا ما لمسته –والله- طيلة علاقة استمرت عشرات السنين اكتشفت خلالها المعادلة الأهم في شخصيته: التصدي الضاري لمن لجبروت من يرى نفسه الأعلى مقاماً ومكانة، والتراجع الأبوي او الأخوي أمام الأقل حيلة.
ذات يوم عقدنا اجتماعَ عمل مع مسؤولين إداريين وسياسيين كبار في عمان لتنسيق الجهود بين عمل مؤسستينا، مازن وزميل آخر وأنا نمثل مؤسستنا من جهة، والوزير (قليل الحيلة) والمدير المتفرعن الذي بيده كل الأمور من المؤسسة الأخرى، وتخشاه كل الأوساط في الحقل الذي يتسيّد فيه من جهة أخرى، وهنا وقعت الواقعة لأرى وجهاً في شخصية مازن الناعم الإنساني الضعيف إنسانياً أمام طلابه ومرؤوسيه ومريديه، وجهاً ينطق بالحزم والتحدي لم أره من قبل، وكانت نتيجة الجلسة إذلالاً محسوباً مؤدباً وصارماً وسافراً لذلك المدير الذي حاول أن ينقل إلينا “عنطزانه” على مرؤوسيه وحتى من استخفافه بوزيره قليل الحيلة، وما زلت حتى عهد قريب أطالبه بإعادة سرد الواقعة – وقد كاد ينساها- إذا حضر في مجلس ما أُتي فيه على ذكر ذلك المسؤول الطاووسي النافذ الذي اعتاد أن يتزلف إليه الجميع ممن كانوا أعلىى مكانة تجنباً لشراسته وقوة شكيمته المستمدة من أصله وفصله، ومن كان أعلى جو تلك الجلسة العاصفة لذلك المسؤول الذي ولطالما أذل كثيرين من الكبار والصغار ومرمط كراماتهم بتراب الأرض، وهنا أستعيد مشهد وزيره المسكين وهو يتوسل الطرفين “بموضوعية مطلقة” لإصلاح ذات البين لمصلحة الطرفين.. أما نتيجة تلك الواقعة فكانت تمريغ كبرياء ذلك المسؤول في الطين وحصولنا على كل ما جئنا أجله من مطالب، بل وأكثر بناء على كرم مفاجئ من المدير الشرس بعد أن عاد إليه صوابه بفعل فاعل، ومسح وجههه بكف الرحمن .
باني مؤسسات
وقد استطاع الرجل، اعتماداً على الجهود التطوعية، أن ينشئ فريقاً طلابياً أسهم في تنظيم فعاليات الجامعة الثقافية والإعلامية، والأهم أن هذا الفريق كان الكادر البشري المدرب الذي تولى مهمة تشغيل فعاليات مهرجان جرش، طيلة السنوات التي أدار فيها مازن هذا المهرجان، هذا الفريق وأجيال وأجيال من خريجي الصحافة والإعلام و قيادات العمل الصحفي اليوم، تعلم وتدرب ووضع أمامه نموذجاً، يسعى العدد الأكبر من أعضائه ليكون عند حسن ظن “المعلم” القدوة “مازن العرموطي”. ناهيك عن فريق جريدة “حافة اليرموك”، هذا الفريق الذي قامت على أكتافه مهمات جمع الأخبار وكتابتها وتحريرها ناهيك عن توزيعها والإسهام بتغطية كلفتها عن جمع المادة الإعلانية وتحريرها، بالتزام بالأسس القانونية والتشغيلية التي أرساها المايسترو رئيس تحرير صحيفتهم، وهاهم كثيرون من هذا الفريق ممن يتصدر المشهد الإعلامي الأردن.
وبعد، أستطيع أن أورد عدداً لا يحصى من الأمثلة، لا من قبيل الاستطراد، بل من واجب الاستحقاق حول مازن العرموطي “المؤسسي” أو باني المؤسسات حسب تعبير الدكتور عدنان بدران في اجتماع رسمي بحضوري، وأصر يومها الدكتور بدران على تكرار التعبير باللغتين العربية والإنجليزية Institution builder.
إن ما ورد في هذا الكتاب من ذكريات ينطوي على سجل تاريخي من الضرورة وضعه أمام مجتمعنا، لما ينطوي عليه من قيمة معلوماتية، ورسالة تعليمية، وعظة ما أحوجنا لأن نتدبرها، بل نبني عليا، ومن خلاصة ما أحوجنا أن نتبصر بها ونفهم الكثير من خلالها من جوانب العمل العام حين يباشره من كان أهلاً له بطبيعته الإنسانية، ومقوماته الشخصية، ولنبدأ بجانب بناء المؤسسة.
يحتاج بناء المؤسسة الناجحة، بناء على مانستنتجه من هذه الأوراق والوثائق التي أتاحها لنا هذا الكتاب الى ثلاثة عوامل:
العامل الأول: أن يمتلك القائم على المشروع رؤية وهدفاً واضحاً، والرؤية ليست معنى تجريدياً قائماً بذاته بقدر ما هي بصيرة بشرية نمتلكها ونسير على هديها، وهذا ما توافرت عليه شخصية مازن العرموطي.
وهذا ما كنت شاهد عيان عليه بنفسي في ثلاث تجارب ناجحة واستمر نجاح اثنتين بفضل التمسك – نسبيا – بالإرث التشريعي والتشغيلي الذي تركه المؤسس لهذه التجارب بعد انتقاله إلى موقع جديد، والبناء على هذا الإرث، فيما تم التفريط بهذا الإرث في المؤسسة الثالثة، ولكن حسب هذه المؤسسة أنها قائمة إلى اليوم،
أما التجربة الثانية التي كنت شاهداً على معظم فصولها، فكانت مهرجان جرش، وهو المشروع الذي طالما كثر الحديث حوله طيلة سنوات طويلة قبل أن يصبح حقيقة ماثلة بفضل مازن العرموطي الذي تولى مباشرة التنفيذ مشرفاً على كل صغيرة وكبيرة وبدعم مشكور من رئيس الجامعة في تلك المرحلة الدكتور عدنان بدران ، وذلك بعد محاولات متعثرة أنيطت خلالها مسؤولية إقامته إلى أكثر من جهة كان الإخفاق هو الحصاد الوحيد لجهود تلك الجهات. دون أن تتحقق خطوة واحدة على أرض الواقع، ولم يمض سوى شهور قليلة إلا كان المهرجان حقيقة واقعة بل شكل أهم الأحداث الثقافية والفنية والسياحية التي شهدها الأردن عبر تاريخه، وما زال هذا المهرجان الذي وضع الأردن على الخريطة العالية ثقافياً وسياحياً، يعطي ثماره الى اليوم بل باتت المشاركة فيه مطمحا عزيزاً وعنواناً للنجاح لددى كبار المثقفين والفنانين والفرق الفنية المعروفة وغير المعروفة، ولطالما توسطني- لهذه الغاية- بعض من هؤلاء الكبار…
أما المشروع الرائد الثالث على المستوى الوطني على الأقل، فكان إنشاء المعهد الدبلوماسي بمبادرة ودعم ورعاية من سمو الأمير الحسن، وكنت شاهداً كذلك على المرحلة الرئيسية والأهم، من بدء الاستعدادات لانطلاق مسيرته في عام 1994 ولعشر سنوات لاحقة، ولا سيما مرحلة صياغة الأهداف ووضع التصورات وإنجاز الخطط الدراسية، فتم اختيار أعضاء اللجان المتخصصة من كبار الأكاديميين والخبراء على أسس تأخذ في اعتبارها الكفاءة العلمية والخبرة المتمرسة والإنجاز المشهود، وهكذا لم تمض بضعة أشهر إلا وقد أصبحنا أمام مؤسسة أكاديمية فريدة من نوعها في برامج التعليم لمرحلة الدراسات العليا وتمنح درجتي الدبلوم والماجستير، ناهيك عن التدريب الميداني للمنتسبين للمعهد ولكوادر وزارة الخارجية، حيث اشترطت مقاييس مدروسة لقبول الدارسين، فكانت النتيجة جيلاً من الدبلوماسيين المؤهلين والدارسين ما زال عطاؤهم قائماً.
وحتى ينجح بناء المؤسسة الرائدة، فإن الأمر يحتاج إلى عنصر ثالث بعد امتلاك الرؤية وتوافر الدعم، وأعني بهذ العنصر : الظروف المؤاتية.
أنيطت بمازن العرموطي بعد مرحلة تأسيس المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا ، حيث عمل مستشاراً للأمير الحسن وعضواً فاعلاً في المجلس، وحتى انتهاء انتدابه في المعهد الدبلوماسي وقبل عمله سفيراً في عاصمتين مهمتين في أوروبا هما فيينا ولاهاي، مسؤوليات حساسة من خلال موقعه مستشاراً لولي العهد، في مجالات تنفيذية ومهام خاصة سرية وعلنية، ولكن ما أنيط به بعد ذلك، أو خلاله من مهمات الاتصال الثقافي والتواصل الحضاري وتنظيم المؤتمرات وحلقات الحوار والمهرجانات والمناسبات الدولية، سواءً في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو اليابان، هو ما يجعلنا نتوقف طويلاً عند هذا الحجم الهائل من العمل الدؤوب والحصاد الكبير في النتائج، وهذا يقودنا إلى منطقة شائكة …. فما أنجزه الرجل طيلة عمله في تلك المرحلة تحديداً كان يمكن البناء عليه، ولو تم هذا لتحققت “عوائد” أفضل مما نجنيه اليوم من نتائج سلبية أو لا نتائج على الإطلاق، في العديد من المجالات التي باشرها الرجل بكفاءة تُسجل في تاريخه، وفي تاريخ حركة النهوض في بلادنا. لكن المشكلة كانت على الدوام في العوائق العقيمة والمكائد الشخصية المغرضة.
مكائد و عراقيل
فمنذ التحاقه بالعمل العام، وما أن يحل الرجل في أحد المواقع المهمة وتظهر للعين قدراته الاستثنائية حتى تبدأ سلسلة تكاد لا تنتهي من المواجهات، إما مع البيروقراطية التقليدية، أو ما اعتدنا عليه من ميل غريزي لبقاء الأمور على حالها والنفور من كل ما هو خارج على المألوف، والنظر إلى المبادرات الخلاقة على أنها مغامرات فردية ليس الغرض منها سوى تلبية طموح من هم مثل مازن العرموطي للقفز إلى أعلى، وتصل الأمور أحياناً إلى مستوى الدسائس الرخيصة والمناورات الخبيثة وربما المؤامرات المفضوحة، دون أن يلتفت هؤلاء إلى أن الرجل لم يغادر موقعاً ما أبدع فيه إلا بإرادته هو وبطلب إعفاء من المهمة المسندة إليه هو في حقيقة الأمر أقرب إلى الاحتجاج، لأن الأمور لم تعد تسير على ما يتطلع لإنجازه بحسب رؤيته وبالشكل الذي يريد، ولو كان مازن يطمع حقاً نحو الأعلى لتحمل استفزازاً من هنا وعرقلة من هناك ولصبر حتى يصل إلى ما يتطلع إليه ولربما فوق ذلك.
كان مازن العرموطي يضع مثل هذه الاحتمالات في حسابه، وكان يدرك أن المواجهة مع تلك القوى في المراحل المبكرة للمشروع تعني وأده قبل أن يرى النور، هنا يظهر الحس السياسي المتوقد لديه، فيلجأ إلى الاستيعاب بدلاً من المواجهة، بمعنى أنه يجعل من “القوى المعوقة” عوامل دعم لما يباشره في مهام الإنجاز المؤسسي؛ فيكلف البعض “الممتعض” من القاطرة التي تسير بمهام شكلية أو جتى شرفية تشعره بأنه سيكون شريكاً في النجاح وجني الثمار، فيضمن بذلك تحييد هذه القوى المعوقة ، مما يعني تخفيف الضغوط السلبية وتجنب المناورات والمكائد من هذه الجهة أو تلك، أو من هذا المسؤول النافذ أو ذاك، وهكذا تفتق ذهنه عن فكرة الهيئات ا الموازية واللجان الفرعية والمجالس الاستشارية التي كانت تضم كل من يلمس مازن العرموطي أن لديه تأثيراً، من بين ذوي العلاقة أو الاختصاص في الحقل الذي يقع المشروع في نطاقه، أو من ذوي الكفاءة والنفوذ بصرف النظر عن مشاعر بعضهم السلبية المسبقة تجاه المشروع الجديد أو من الشخص الذي يدير أموره، فيشوش ىهذا المسيرة أو يضع العقبات في طريقها، فإذ بالذي كان يحمل الموقف السلبي يتحول إلى ولي حميم، وداعم قوي وذائد باسل عن حمى المشروع، ولا بأس في هذا ما دامت الأمور تحت السيطرة، وما دام نفع هذه المجالس واللجان والهيئات الموازية، أو الشكلية، أكثر من ضررها، ولا تكلف سوى مصاريف الضيافة العابرة، أما الغداء أو العشاء فهو سندويشات الفلافل الشهية حرصاً على الوقت الثمين وإنجاز “الشغل” في وقته. سمّ ذلك مناورة إن شئت، ولكن من قال أن الالتفاف على البيروقراطية النافذة والمعوقة يمكن أن يتم دون دفع الثمن حتى لو كان ثمن السندويشات.
وكانت الخطورة تأتي دائماً من ذوي المستوى المتوسط من القدرة والكفاءة والذكاء أو لنقل ممن حققوا التسلسل الوظيفي و واستعانوا بالنفوذ الاجتماعي في ترسيخ مواقعهم وتسلق السلم ولكنهم لا يمتلكون الرؤية، بل يمتلكون الطموح، وهو طموح أسود في كثير من الأحيان، وتزداد الأمور تعقيداً إن كانوا من نفس الحقل أو المؤسسة المنوط أمر إنشائها إلى رجل موهوب غير تقليدي مثل مازن العرموطي؛ فهذا من شأنه أن يكشف الضعف لدى متوسطي القدرات ويفضح العجز لدى الذين يضربون بسيف من خارج ميدان الاختصاص، وهكذا كانت “مناورات” الاستيعاب تنجح في تحييد البعض أو إبعاد أذاهم أو حتى اكتساب دعمهم ولو إلى حين، ولكن ما أن ينجز المشروع بنجاح ملحوظ، وتنتقل جهود مازن إلى ميدان آخر حتى تبرز طبقة جديدة من المتضررين من نجاح التجربة، لتتجدد محاولات الانقضاض وهكذا دواليك؛ فتستمر الدوامة من سجال إلى سجال ، ويستمر الرجل في إنجازه في كل ما قد يُعهد به إليه، بحيث صارت مقولة: “هذه المهمة ليس لها إلا مازن العرموطي” تتردد على ألسنة الكثيرين من كبار المسؤولين ومن ذوي النفوس الكبيرة ، ونذكر على سبيل تجرة لمازن مع أحد أولئك الكبار. بل مع الضمير الوطني المسؤول بحجم سمو الأمير الحسن، أو دولة الدكتور عدنان بدران، أو دولة الدكتور عبد السلام المجالي، أو من جانب عديدين في جهات سيادية العليا ممن يصدرون عن المنطلقات النزيهة والمواقف المسؤولة والرؤى الموضوعية والقرارات التي لا تتوخى سوى النهوض بهذالبلد.
بدأت الحياة العملية لمازن العرموطي منذ بداية السبعينيات، واستمرت بزخمها المعهود ما يزيد على ثلث قرن، وها هو الآن يأخذ استراحة المحارب وقد نيّف على الثانية والسبعين، لكنني أزعم أن مازن العرموطي قد قطع من سني العمر الإنساني بمقاييسنا المعتادة ماهو ما هو أكبر من هذا الرقم بأضعاف مضاعفة، لنقل إنه – مد الله في عمره- قد عاش إلى الآن على ما يزيد على مئة واثنين وسبعين عاماً، التفت في خلال سني شهادة الميلاد الاثنتين والسبعين إلى نفسه، فأسس حياته الخاصة النموذجية سواءً بأسرته الصغيرة أو بعائلته الكبيرة، أو بمحيطه الاجتماعي أو لنقل بفضاء حياته الإنساني، أخذ من الدنيا الكثير من المباهج وبخاصة في هوايته بالصيد والرحلات والعمارة والفنون والطعام… وغير ذلك من سبل الترويح وضروب الهوايات التي أمتعنا بسردها في الفصل الأخير من هذا السفر الذي يستحضر فيه خلاصة تاريخه العام والشخصي وعصارة تجربته.
مباهج الإنجاز
لم يحرم نفسه من مباهج النجاح، وكانت أهم هذه المباهج هو انهماكه في العمل لساعات وساعات وساعات في اليوم الواحد، ولم تنفصل متعته في الحياة عن عمله وإنجازه الذي امتد ليشمل معظم جهات العالم، فكان ارتياده لهذه الجهات عملاً دؤوباً وإنجازاً وطنياً مستمراً وسعادة غامرة كذلك، وكانت فرصته ليحرز النجاح تلو النجاح، ويراكم التجربة تلو التجربة، ويعيش بهجة الإنجاز بتصالح عجيب بين الانهماك المضني في العمل والإقبال المنفتح على الحياة.
ولكنه من الجهة الأخرى ،نال من المعاناه ما نال وبخاصة مِن غدر من رفعهم ، ومن تنكر ممن أخلص لهم.
أما المئة عام الأخرى فمن السهل احتسابها، بدءاً من عمله صحفياً ناشئاً في جريدة “الرأي” ثم ناشطاً ثقافياً وإعلامياً وسياسياً طيلة سنوات دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي جامعتي كولومبيا/ ميزوري، وويسكونسن بأمريكا، وهي بحسب الوثائق الرسمية ستة أو سبعة أعوام، وفي ميزان الإنجاز ضعف هذه المدة، ومثل ذلك بضعف أو يزيد عن تجربته الأكاديمية، الأولى في جامعة اليرموك وتخللتها سنوات مهرجان جرش، ومشاركته الفاعلة مستشاراً وعضواً فاعلاً في مجالس ومنظمات وهيئات عليا، مهمتها وضع السياسات للعديد من جوانب حياتنا العلمية والثقافية والإعلامية والسياسية، والتجربة الأكاديمية الثانية في تأسيسه المعهد الدبلوماسي على أسس علمية وفي عمله فيه رئيساً وأستاذاً بترقية من الجامعة الأردنية (بموجب اتفاقية الارتباط الأكاديمي بين الجامعة الأردنية والمعهد الدبلوماسي)، ثم تجربته سفيراً في أوروبا في عاصمتين، ولكن بمسؤوليات دبلوماسية تغطي عمل أكثر من خمس عشرة سفارة واعتمادا، إضافة الى جهوده التنظيمية لنشاطات سياحية وترويجية لتعزيز مكانة بلاده في أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى، وكل هذه التجارب تقودنا إلى حسبة بسيطة: أن الرجل الآن في العام الثاني والسبعين بعد المئة من عمره المديد.. منحك الله يا أخي مازن موفور الصحة والسعادة وراحة البال .. وأبعدك عن كوابيس السنوات التي تحتسب بأضعاف أرقامها الرسمية، وحسبنا وحسب المخلصين لك ممن سبقتهم في الإخلاص لهم والوفاء بأضعافه لوفائهم، أن يحتفلوا بك بالعيد المئة من الجانب الأول في سنوات عمرك المديد والمجيد.