تسعى الولايات المتحدة الأميركية منذ عهد ترامب أن تقلص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، أولا لارتفاع الكلفة، وثانيا لتركيز الاهتمام في مناطق أخرى، وثالثا لقدرة إسرائيل أن تحل محلها لما تراكم لديها من أسباب القوة وما تراكم لدى الدول العربية من ضعف وتشتت، ورابعا للتوجهات الجديدة في منظومة الطاقة العالمية.
من جانب آخر، عند التأمل في تفاصيل ما يجري على الأرض الفلسطينية يوميا، وما يجرى في المنطقة العربية من تبعثر وفقدان للبوصلة وصراعات، يتساءل المواطن العربي: هل تغيرت الأحوال بعد رحيل الإدارتين؛ الإسرائيلية والأميركية الأكثر عداء للسلام؟ رحل ترامب؛ فهل اختفى التهديد والوعيد والابتزاز، وهل ذهبت صفقة القرن؟ كذلك رحل نتنياهو فهل انتهت “إستراتيجية الاقتصاد وليس السياسة”؟ وهل تراجع الاغتصاب الاسرائيلي عن أي شبر من فلسطين وفي مقدمتها القدس والاماكن المقدسة؟
بالنسبة للولايات المتحدة فقد أخذت الدوائر العميقة فيها “صفقة القرن ومحتوياتها كخطة دولة للتعامل مع القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي”، وليس مجرد مشروع من ترامب سرعان ما يتوقف المشروع بعد ذهاب الرئيس. وبالنسبة لإسرائيل فإن عدوانيتها وتوسعيتها واصرارها على الاغتصاب والتهويد الممنهج لم تتغير بل تعمقت.
ذلك انها مسألة استراتيجية راسخة للحركة الصهيونية، والاحزاب والقوى السياسية الاسرائيلية. وقد جاء بينت وفريقه لمتابعة تنفيذ الرؤية الصهيونية بكل حرفية وتشدد بل وبتعصب ووحشية أكثر.
الفرق بين ترامب وبايدن في هذا الشأن، هو نفس الفرق بين نتنياهو وبينت. الضجيح والاستفزاز والابتزاز لدى ترامب ونتنياهو، مقابل الهدوء والمرونة والعمل بدون ضجيج من بايدن وبينت. صفقة القرن التي تم رفضها حقيقة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وإعلاميا من معظم الدول العربية، هي قيد العمل والتنفيذ دون استعمال التعبير الشعبوي “صفقة”، ليصار التأكيد على الديانة الابراهيمية أو المذهب الابراهيمي، ليجتمع المسلمون والمسيحيون واليهود (والمقصود هنا اسرائيل) تحت لوائها، ويتركوا السياسة وفلسطين وما يجري هناك.
تقوم الصفقة على حصر الفلسطينيين في مساحة لا تتجاوز 12% من اراضي فلسطين التاريخية (تمهيداً للتخلص منهم بأسلوب يهودي مبتكر)، وتكديس المستوطنات عند كل مدينة وقرية فلسطينية وفتح الطرق الالتفافية ومصادرة الأراضي، حتى يتحول الفلسطينيون من اصحاب وطن الى مجرد سكان او مقيمين بدون ارض، وبدون مقومات وطن.
هذا مع المحافظة من طرف اسرائيل على الانقسام الفلسطيني وتغذيته دبلوماسيا ولوجستيا وإعلاميا بكل الوسائل. ومن هنا فقد جاء إعلان بريطانيا مؤخرا وقبلها الولايات المتحدة ودول أخرى “حماس منظمة ارهابية” حتى لا تستطيع الفصائل الفلسطينية ان تشكل حكومة وحدة وطنية، وبذا يتم تكريس الإنقسام الفلسطيني.
وتعمل اسرائيل بخبث متوحش على ابقاء غزة محاصرة ولكن دون الانهيار او الانفجار، على أمل ان تكون بديلاً للدولة الفلسطينية المنشودة، الى ان يأتيها الدور بعد ان تستكمل اسرائيل إبتلاع وهضم الضفة الغربية، وتهويد القدس بكل التفاصيل. وهذا ما يجري حالياً على قدم وساق، وبنفس الاسلوب الصهيوني النازي، ولكن بهدوء، بعيداً عن صراخ نتنياهو وابتزازات ترامب.
كما ان التضييق على الاونروا لم يتراجع، لان انهاء الاونروا هدف مهم لاسرائيل، وتتحرك إدارة بايدن خطوة الى الأمام وخطوة ونصف الى الخلف، فربما تنهار الاونروا من ذاتها نتيجة للإنهاك المتواصل وغياب الدعم الاميركي.
في مؤتمر المنامة، وعد كوشنر الفلسطينيين والدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة؛ مصر والاردن ولبنان، بمعونات وقروض تصل 30 مليار دولار على مدى 10 سنوات. وهذا ما تعمل الادارة الاميركية على تنفيذه مباشرة او بصورة غير مباشرة من خلال حلفائها.
ودعا كوشنر آنذاك، الى التركيز على الجانب الاقتصادي والتعاون بين الاقطار العربية واسرائيل بعيداً عن السياسة، انسجاما مع فلسفة نتنياهو ونظريته بأن العرب قد تقولب تفكيرهم في اطار المال والمساعدات والمنح والاعتماد على الآخر والدعم الاجنبي.
ويكفي التلويح بمبالغ كبيرة، حتى ولو كانت وهمية، او بدعم سياسي او عسكري كبير لأي قطر عربي، حتى يسارع العرب الى نسيان كل شيء من اجل المنحة او الدعم او حتى القرض ولا يعود للسياسة اي دور. وما نراه اليوم هو التطبيق الحرفي لهذه المفاهيم. فالاعتراف والتطبيعات مع اسرائيل تتوالى ليس لأي مصالح وطنية حقيقية.
وما ان يبدأ التطبيع حتى تبدأ المشاريع والاستثمارات مع اسرائيل وزيارات الخبراء وتدفق السياح وتوقيع الاتفاقيات حتى في المجال العسكري، كما كانت زيارة جانتس الى المغرب. واذا نظرنا الى الاماكن المقدسة فإن ما فعله رئيس اسرائيل من اقتحام المسجد الإبراهيمي في الخليل هو ذاته ما يفعله قطعان المستعمرين المستوطنين كل يوم.
ومع هذا فالإدارة الاميركية لا تحرك ساكناً بأي اتجاه سواء فيما يتعلق بالمستوطنات، او هدم بيوت الفلسطينين، او برنامج التهويد الكامل للقدس، او الاعتقالات التعسفية للاطفال والنساء والشباب، حتى تجاوز عدد المعتلقين في السجون الاسرائيلية 4850 معتقلاً.
ما يجري حالياً هو أكثر وأسرع مما توقعت صفقة القرن. فالتشبيك الاستراتيجي العربي مع اسرائيل، وقيام إسرائيل بدور أميركا يتسع يوماً بعد يوم، وبتعليمات مباشرة للدول العربية من الادارة الاميركية، بدأ بالتجارة غير المعلنة، والتي راحت تتصاعد باضطراد، فزادت مع كل من الاردن ومصر والمغرب والامارات في 2021 بمقدار 234% عما كانت عليه في 2020، فوصلت 613.9 مليون دولار.
وفي 2016، كانت اتفاقيات الغاز بين الأردن و إسرائيل رغم الرفض الشعبي والبرلماني لها، وأصبحت كل من مصر والاردن واسرائيل مرتبطة بشبكة من الخطوط، ودخلوا في مجموعة خاصة ضمن نادى المتوسط للغاز.
واليوم بعد الربط بالغاز واعتباره أمراً واقعا دفعت أميركا باتجاه المياه قتم توقيع رسالة النوايا بين الأردن و إسرائيل وسط رفض شعبي كبير. وخلال السنوات القليلة القادمة، سوف يصبح الربط المائي عاديا، وتدخل السكة الحديد لربط دول الخليج والعراق والاردن بمنظومة حديد تبدأ من حيفا وتعبر الأردن وتنتهي في الخليج وتسيطر على مفاصل تتحكم بها إسرائيل.
وسيبقى الوضع يتحرك نحو مزيد من التحكم الاسرائيلي للوصول الى السيطرة الكاملة على المفاصل الإستراتيجية الخمسة: الماء والطاقة واللوجستيك والتكنولوجيا والمال. هكذا وبدون أي ضمانات أو تغيير في السياسات.
وهكذا يصبح الخروج الاميركي من المنطقة اعتيادياً لا يتضمن اي مخاطرة، لتحل إسرائيل محل أميركا في السيطرة، خاصة ان تركيا في طريقها لاستعادة العلاقات مع اسرائيل، وربما تتبعها ايران اذا تم التوصل قريبا الى اتفاقية جديدة حول المسألة النووية الايرانية في جنيف. ولا بد من الإشارة إلى أن أكثر الأطراف تضررا من كل ذلك هما الأردن وفلسطين، تليهما سوريا ولبنان. فالأطماع الصهيونية في أراضي البلدان الأربعة معلنة.
بعد كل هذا: هل هناك فرصة لتغيير سياسات وبرامج كل من اسرائيل والولايات المتحدة تجاه القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى؟ والمنطقة العربية بالدرجة الثانية؟ هل سيساعد تغيير الرؤساء على تغيير السياسات؟ الاجابة ليست في الولايات المتحدة، ولا في اسرائيل، وليست في اوروبا او الأمم المتحدة. الاجابة في فلسطين والمنطقة العربية. ذلك أنه ما لم يقع تغيير حقيقي في الدول العربية وخاصة القريبة من فلسطين باتجاه الاعتماد على الدعم الشعبي في كل دولة عربية وليس الدعم الاجنبي، وباتجاه التوقف عن السعي وراء المساعدات والمنح والقروض غير المبررة، وباتجاه الاعتماد على الذات من خلال توسيع قاعدة المشاركة، وما لم تشرع الإدارات العربية بالاستعانة باهل العلم والخبرة والفكر لوضع حلول وطنية للمشكلات التي تواجه كل بلد، وليس انتظار الحلول الجاهزة، فإن المعسكر الاسرائيلي الاميركي لن يقع فيه اي تغيير، سوى الكلمات والتصريحات والتلميحات، سواء عاد ترامب او عاد نتنياهو، ام لم يعودا ابدا.
اما الفلسطينيون فليس لهم الا المقاومة والصمود والتوحد والتوافق، والتركيز على الجوانب القانونية والقرارات الدولية، والذكاء في التعامل مع المؤسسات الدولية، فذلك طريق المستقبل الأكثر أمناً.