منذ عقود لا أستغني أبداً عن مطالعة أشهر مجلة أمريكية جدية متخصصة في الجيوستراتيجيات، وهي (فورين أفيرز) «الشؤون الخارجية» مثل أغلب المهتمين بتحليل السياسات الدولية والعلاقات بين الأمم، ولفت نظري السؤال الأهم الذي زينت به المجلة غلافها الأحمر في عددها الأخير (أبريل 2021)، وهو (هل بإمكان أمريكا قيادة العالم وهي تعاني من الانحدار والسقوط؟) نعم! العنوان مستفز وهو يقصد الاستفزاز، لكنه يسجل حقائق لم ينكرها رؤساء الولايات المتحدة أنفسهم وآخرهم الرئيس جو بايدن يوم 20 يناير 2021 حين كان أقساهم وأكثرهم جرأة في الاعتراف بأن الأمة الأمريكية تحتاج إلى عودة قوية للعالم، أليس هذا الاعتراف إقرارا بأن بلاده العظيمة خرجت من العالم أو كادت بل ظلت لسنوات أربع على هامش العالم؟، لكن أحد خبراء السياسات الخارجية (ألكسندر دوجين) يقول: «نحن نعيش في عالم القطب الواحد، وهذا هو الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الراهن، لأن الهيمنة الأمريكية في المجال العسكري والتقني حقيقة لا جدال فيها، كما أن الليبرالية الديمقراطية ما تزال أيديولوجية مسيطرة على نطاق عالمي.
الغرب لا يزال هو الذي يضع الرموز المعيارية للاقتصاد والسياسة والثقافة والتكنولوجيا ومجال المعلومات، وأولئك الذين يتنافسون معه (الصين وروسيا) ما زالا مضطرين للعب حسب قواعده وهي «قواعد أحادية القطب الشاملة»، هذه الأحادية التي تتآكل بشكل ملحوظ وتطلق عليها مجلة (فورين أفيرز) نعت الانحدار والسقوط، وهو ما يخلق ظروفاً يمكن وصفها بغروب شمس العالم أحادي القطب، ويضيف المحلل الأمريكي (دوجين) مفسراً طبيعة القطب الواحد فيقول: «يجب فهم أحادية القطب بشكل واسع: فهو يشمل التوازن العسكري والإستراتيجي والجغرافيا السياسية والاقتصاد (الرأسمالية) والقيم (الليبرالية) المتمثلة في حرية السوق والتجارة العالمية بدون ضوابط والتحكم في التكنولوجيا وتوجيه عالم الشبكة العنكبوتية (الواب) حسب ما تقتضيه مصالح الأمة الأمريكية، فالديمقراطية أو الرأسمالية هي ظواهر غربية مثلها مثل منظمة حلف شمال الأطلسي على الصعيد العسكري، ولكن اليوم كل الإنسانية تقبل بها كواقع «بديهي» ما يعني أن أحادية القطب المقصود بها وجود قطب واحد مهيمن فقط على نطاق الكوكب ما زالت تحتفظ بنفوذها.
العالم اليوم أحادي القطب رغم ذلك يجب فهم هذه الأحادية على نطاق أشمل، فنحن نلاحظ أن أحادية القطب الضخم بدأت تتآكل وهو ما يخلق بيئة فكرية جديدة يمكن أن نطلق عليها «غروب العالم أحادي القطب»، لأن أحادية القطب انطفأت! وفي نفس السياق قرأنا للكاتب والمفكر الأمريكي توماس فريدمان (صاحب الافتتاحيات الشهيرة في نيويورك تايمز) تحليلاً طريفاً يشبه فيه انحدار الولايات المتحدة بالحالة اللبنانية إبان الحرب الأهلية، لأنه كان مراسلا صحفيا في بيروت من 1975 إلى 1990، فتطرق فريدمان إلى تجربته في تغطية تلك الحرب، و»كيف أنه رأى ما يحدث في تلك الدولة من ألاعيب سياسية، حيث كان عدد لا بأس به من السياسيين يقدمون مصلحة أحزابهم وطوائفهم على مصالح الوطن، وقال إنه يتمنى ألا يحدث مثل ذلك في أمريكا»، فأسباب الهشاشة في أمريكا في نظر فريدمان هي سياسية وليست لا اقتصادية ولا حضارية.
أما المحلل (إيفن كريشر) من وكالة بلومبيرغ فهو يفسر انخرام التوازن بين الأقطاب التقليدية (أمريكا روسيا الصين) بالانتشار السريع والمريع لفيروس كورونا، الذي زعزع كل المخططات الجيوستراتيجية التي وضعتها الدول العظمى في نطاق التنافس السياسي والعسكري والإستراتيجي المتعلق بالحفاظ على مناطق نفوذها «الطبيعية»، فاضطرت هذه القوى العملاقة إلى نوع من الانكفاء وانحسار كل دولة عظمى ضمن حدودها الجغرافية تحسباً للتهديد الصحي الخطير المنذر بالخروج عن السيطرة، بل إن الفيروس أصبح مع (ترامب) تعلة للهجوم على الصين واتهامها بأن سمى باسمها الفيروس فتحولت كورونا في خطبه الشعبوية إلى «الفيروس الصيني!» مما جلب احتجاجاً قوياً من وزير خارجية بيجين الذي سمى بدوره فيروس (أيبولا) بالفيروس الأمريكي!.
وما تبع هذه الشعبوية المتبادلة من ممارسات عدوانية في عدة مدن أمريكية ضد المواطنين الأمريكان من أصول صينية! نختم مقالنا بنصيحة قدمها الأسبوع الماضي عميد الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر (94 سنة) في كلمة له عبر تطبيق «زووم» ضمن ندوة أقامها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن، حلل فيها ظاهرة القطبيات المتعددة ونصح «بأن تحاور واشنطن الصين حول إقرار نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لكن تحت الرقابة الأمريكية!»، ثعلب الدبلوماسية كيسنجر كما كان يسميه نظيره الفرنسي (ميشال جوبير) سيبقى دائماً ثعلباً سياسياً ولن يتحول إلى حمل وديع حتى في هذه السن المتقدمة، أتذكر القصص التي كان صديقي طيب الذكر وزير خارجية فرنسا (ميشال جوبير) يقصها عليّ حول اشتباكاته العديدة مع نظيره الأمريكي كيسنجر حول أزمة قطع إمدادات النفط عام 1973، وكيف كان كيسنجر يقول لوسائل الإعلام: «إن هذا الفرنسي قصير القامة هو المحاور الخطير طويل اللسان..» كان يقصد (جوبير) طبعاً.