ولّدت هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية وفوز جو بايدن مخاوف إسرائيليةً على مصير “صفقة القرن”، التي حاول ترامب حسم الصراع العربي الإسرائيلي من خلالها لصالح دولة الاحتلال على كافة الأصعدة، وتحقيق الحلم الصهيوني الأكبر المتمثّل باعتراف العرب بالأحقيّة الصهيونية اليهودية على أرض فلسطين، وفي مقدّمها مدينة القدس، الأمر الذي عبّر عنه ترامب في حديثه أن القدس عاصمة اليهود في العالم، وهو ما كرّسه باعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمةً لـ”إسرائيل”، وأكد على ذلك بنقل السفارة الأميركية إلى القدس بخطوةٍ كان قد أَحجمَ عنها جميع الرؤساء الأميركيين السابقين.
تنتهج حكومة بنيامين نتنياهو استراتيجية المحافظة والتأكيد على إرث دونالد ترامب الاستيطاني، خاصةً في ما يتعلق بمصير مدينة القدس، في الوقت المتبقي له في البيت الأبيض من جهة، ومن جهة أخرى من خلال خلق وقائع استيطانيةٍ على الأرض، يصعب على إدارة جو بايدن تغييرها على الأقل في الفترة الأولى من ولايته.
تُعتبر زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى مستوطنة “بساغوت” التي شُيّدت على أراضي مدينة البيرة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة تثبيتاً للاعتراف الأميركي بشرعيّة الاستيطان اليهودي في القدس والضفة الغربية. أما بالنسبة للقدس، فقد قال بومبيو في مؤتمرٍ صحافي: “سنحت لي الفرصة للسير في مدينة داوود (سلوان)، واليوم نلتقي في مكانٍ يُطلّ على البلدة القديمة”، إشارةً إلى اعتراف بومبيو أن القدس بشقّيها الشرقي والغربي مدينةٌ يهوديةٌ توراتيةٌ لا أحقيّة للفلسطينيين بالمطالبة بأي جزءٍ منها، الأمر الذي أكّده إعلان دولة الاحتلال عن إطلاق مناقصةٍ لبناء أكثر من 1200 وحدة استيطانية في مستوطنة “جفعات هماتوس” شرق بيت صفافا، في محاولةٍ لقطع التواصل الجغرافي ما بين القدس الشرقية ومدينة بيت لحم، في مسعى إسرائيلي إلى قطع الطريق عن أي مطالبةٍ فلسطينيةٍ مستقبليةٍ بالقدس الشرقية كعاصمةٍ للدولة الفلسطينية على حدود عام 1976 في حال أرادت إدارة جو بايدن استئناف المفاوضات ما بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال.
الغريب في الأمر أن نتنياهو لم يكتفِ باستثمار علاقته بإدارة ترامب وداعميها الإنجليين المشيحانيين وطموح مايك بومبيو في الترشّح للرئاسة الأميركية عام 2024 فحسب، لكنه اعتمد على دول التطبيع الخليجي في تنفيذ تلك الاستراتيجية. تزامنت زيارة بومبيو مع زيارة وزيرالخارجية البحريني عبد اللطيف الزياني للقدس وعُقد مؤتمرٌ صحافيٌّ ثلاثيٌّ مشترك ثمّ تلاه تصريح رئيس دولة الاحتلال روفيين يفلين قال فيه إنه ينبغي على العالم رؤية علمَيْ “إسرائيل” والبحرين يرفرفان جنباً إلى جنب في مقر الرئيس الإسرائيلي وفي شوارع القدس”.
وقد أهدى ريفلين الزياني نسخةً من القرآن الكريم ترجمها والده إلى اللغة العبرية. أضِف إلى ما سبق زيارة وفدٍ من المستوطنين الإسرائيليين قبل أيام إلى دبي برئاسة يوسي دغان رئيس مجلس الاستيطان في شمال الضفة الغربية، من أجل بحث سبل التعاون الاقتصادي مع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. أخيراً، نخرج بنتيجةٍ مفادها تأكيد دول التطبيع الخليجي على شرعية الاستيطان في الضفة الغربية، والاعتراف بمشروع ترامب الإحتلالي لكل ما هو فلسطيني عربي في مدينة القدس.
تأسّس “اتفاق أبراهام” التطبيعي ما بين “إسرائيل” ودول التطبيع على “صفقة القرن” المنطلقة من أساسٍ فكريٍّ تلموديًّ مشيحانيّ يسعى إلى تثبيت الرواية التلمودية الصهيونية المزوّرة، التي تدّعي أنّ “إسرائيل” صاحبة الحق التاريخي الالهي في فلسطين، الأمر الذي يجعل من كل الأساطير التلمودية المتعلقة بإعادة بناء الهيكل الثاني في “أورشليم” القدس حقيقةً باعتراف دول التطبيع الخليجي، وبذلك يُحسم الصراع ليس فقط سياسياً بين الفلسطينيين العرب والحركة الصهيونية بل من خلال إعلان انتصار الرواية الصهيونية بالكامل.
إنّ اعتراف التطبيع الخليجي بالرواية التلمودية الصهيونية الزائفة، يجعل الشعب الفلسطيني العربي مُعتدٍ على الحق اليهودي الصهيوني في القدس وخاصة المسجد الأقصى وليس مُعتدىً عليه، مما يفتح الباب على مصرعيه أمام الجمعيات الاستيطانية المشيحانية في القدس من أجل استكمال مشاريعها التهويدية الهادفة إلى تحويل مدينة القدس من الهوية العربية الإسلامية المسيحية إلى “مدينة داوود” التلمودية اليهودية الأسطورية، وبدء العصر المشيحاني التوراتي، بما يتبع ذلك من آثارَ كارثيةٍ على المسجد الأقصى المبارك، بحيث تتحوّل المطالبات اليهودية غير الشرعية في تقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً حقّاً إسرائيلياً تحت وطأة اعتراف التطبيع الخليجي بمزاعم الحق التاريخي الصهيوني في مدينة القدس، وبالتالي تصبح المخططات الإسرائيلية بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية والمسيحية في القدس عبارةً عن استرداد “إسرائيل” للأماكن اليهودية المقدسة في الحوض المقدس في البلدة القديمة في القدس؛ الأمر الذي برزت بوادره في الفيديو الدعائي التي نشرته شركة الطيران الإماراتية، التي استبدلت فيه اسم المسجد الأقصى المبارك، باسم الهيكل الثاني كمعبدٍ لليهود، دلالةً على دعم التطبيع الخليجي لدولة الاحتلال في سعيها الحثيث إلى تغيير ما يُعرف بالوضع الراهن في المسجد الأقصى، باتجاه مساعي تهويد المسجد الأقصى على حساب بناء الهيكل الثاني التلمودي في باحات المسجد الاقصى.