يُجمع الأطراف اللبنانيون على أمر واحد، وهو اتساع تآكل المؤسسات الدستورية واتجاهها إلى الانهيار. هذا الإجماع المؤسف لا يغيّب حقيقة أن الوصول إلى الفراغ الدستوري الكبير، باستحالة انتخاب رئيس جديد السنة المقبلة في ظل تعطل مؤسسة مجلس النواب ومؤسسة مجلس الوزراء، يهدد الكيان هذه المرة وليس فقط النظام السياسي، إذ إن الصراع الداخلي، مهما حاول الجميع أو بعضهم التخفيف من مظاهره، يطاول أسس التعايش بين أتباع المذاهب، في ظل انفجار الصراع المذهبي في المنطقة، خصوصاً في سورية. ومن غير المعروف حتى الآن مآل المقتلة السورية، وكيفية تجميع هذا الموزاييك المتناثر بعد هذه المذابح وأعمال التدمير المنهجي، مع ما تخلّفه من نوازع الثأر والاجتثاث.
وفي ظل اتساع هذا التآكل في المؤسسات اللبنانية، ومع اتساع الحجم الكارثي لارتدادات المقتلة السورية، سواء اجتماعياً عبر الزيادة الكبيرة لأعداد النازحين أو سياسياً عبر زيادة الانقسام في المواقف من النظام السوري، يبقى الحد الأدنى من التماسك في المؤسسة العسكرية التي لا يرى أي من أطراف الصراع الداخلي حتى الآن مصلحة في انهيارها. وذلك، ربما لأن الحفاظ على هذا التماسك يتيح للجميع التأقلم مع فترة الوقت الضائع، أو ربما لأن أياً من الأطراف الداخلية لم يصل إلى مرحلة ضمان ولائها بالكامل.
على أي حال، ما تزال المؤسسة العسكرية اللبنانية حاجة لطرفي الخصومة المحلية، قوى 14 آذار وعمودها الفقري تيار المستقبل وقوى 8 آذار المتحلقة حول «حزب الله». ولذلك لا تزال متماسكة وصامدة في وجه التآكل المتجول على المؤسسات الأخرى.
لكن كل طرف في الصراع الداخلي يعطي للمؤسسة العسكرية الصورة التي يريدها أن تكون عليها، وليس كما ينبغي أن تكون فوق كل نزاع سياسي داخلي وعابرة لمصالح زعامات الطوائف وحسابات المذاهب، فتكون هذه المؤسسة، بالنسبة إلى طرف ما، حاضنة للوحدة الوطنية ومنع الانهيار في البلد تارة، وطوراً تكون بالنسبة إلى الطرف نفسه منحازة وتستهدف قسماً من اللبنانيين.
بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان، إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وتضعضع النظام الأمني المشترك، بدا أن ثمة اتجاهاً جديداً يتبلور في لبنان على انقاض النظام السابق. وفجأة ظهر «التكفيريون» في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان تحت اسم «فتح الإسلام»، وراحوا يعتدون على الجيش وحواجزه في المنطقة، ويتصدون بالقوة لمحاولات الجيش القبض على المطلوبين في هذه الحوادث. ومع اندلاع المعارك الكبيرة مع فتح الإسلام»، خرج «حزب الله» ليحذر أن الجيش يتورط في معركة ضد الفلسطينيين، وأن دخوله إلى المخيم «خط أحمر». والدافع إلى هذا الموقف من «حزب الله» هو أن جميع هؤلاء «التكفيريين»، وبينهم سعوديون وتونسيون وليبيون وفلسطينيون وسوريون ولبنانيون، قدموا من سورية، وبعضهم من سجونها، وأنهم كانوا يشكلون جزءاً من الخلايا التي ترسل إلى العراق عبر سورية لتنفيذ أعمالها الإرهابية. هكذا كان «الخط الأحمر» بالنسبة إلى «حزب الله» حينذاك، هو تصدي الجيش لهؤلاء «التكفيريين» العاملين مع الأجهزة السورية، والذين كانت وظيفتهم في لبنان إرباك الوضع الجديد ومنع تشكله.
واليوم يتواجه الجيش مع «التكفيريين» في مدينة صيدا الجنوبية خصوصاً، لتصبح المؤسسة العسكرية على لسان «حزب الله» هذه المرة «كل ما تبقى من الدولة فإذا انهارت سينهار لبنان كله وإذا فقدت صدقيتها على الدنيا السلام».
الأكيد أن المؤسسة العسكرية لم تشهد تغيراً استثنائياً منذ معارك نهر البارد حتى الآن، لكن وظيفة «التكفيريين» في لبنان هي التي تغيرت، بالاستناد إلى التطورات السورية وما أفرزته في لبنان من انقسام حول الحركة الاحتجاجية السورية. هذه هي الصورة التي يريدها «حزب الله» للجيش في صيدا، وقبلها في مواجهة لبنانيين في منطقة عكار شمالاً وفي عرسال وعنجر وغيرهما في البقاع. وهي الصورة التي لا يمكن أن تمنع الانهيار الذي يجري التحذير منه، لا بل تسرِّعه.
عبدالله اسكندر/لبنان: الجيش ومنع الانهيار
19
المقالة السابقة