عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
بمناسبة رحيل السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله ، فإن موقع “عروبة الإخباري” ينشر سلسلة حلقات عن حياة الراحل ومسيرته الغنية في بناء الدولة العُمانية، والتي استمرت لنصف قرن استطاع فيها أن يضع عُمان على خارطة العالم المتفاعل، وأن يقدمها كنموذج للسلام والتعاون والشراكة في منطقتها ومحيطها العربي وبعدها العالمي.
لقد كان السلطان قائدا عظيما، التف حول جنازته ومشى خلفها قادة من كل دول العالم وبعضهم لم يلتق مع صديقه أو خصمه إلا في جنازة هذا القائد الذي ظلت سياسته تقبل القسمة على الجميع، ويرى فيه الجميع رجل محبة وسلام وعطاء.
الحلقة الثالثة .. ومن هنا تبدأ الحكاية
كان السلطان في جولاته ومازال بعد خمسين سنة ، وعددٍ يوازيها من الجولات يستمع لشكاوى المواطنين ، من الولاة والحكام الذين يمثلونه في كل الأرض العمانية عبر حوارات مباشرة وديمقراطية مفتوحة ، وبرلمان بلا جدران فكان ذلك شبيه الديموقراطية الأثينية حيث الانتخاب المباشر والتزكية المباشرة ، وحيث نقد الوالي أمامه وفي وجهه .. والسلطان يرى ويترك للحوار مداه وللمنقود أن يدافع عن نفسه ، وإلاّ كان موقفه منه موقف القائل “لقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتذرت ، وإمّا اعتزلت” ولم يكن على الناس في خياراتهم إكراه . فالسلطان في جولاته كان يعرف ما يغضب الناس ومايرضيهم وكيف يحقق لهم الممكن من طلباتهم وحاجاتهم فهم رعيته التي يحرص على حمايتها وحفظها طالما ظل هو الراعي .
لم يأخذ السلطان بأسلوب حرق المراحل ولا القفز فوق الوقائع ، ولا الهروب للأمام ؛ تخلصاً من موقف أو ازمة . بل كان يمعن النظر ويتروى في القرار وكان يريد لقراره أن يكون مدروساً وللقضية التي ينظر فيها أن تكون جاهزة مفهومة ولذا كان يؤمن بالصبر والتروي على قاعدة العمل الجاد وكان يؤمن بالتدرج في الإصلاح والبناء وكان يؤمن بتراكم العمل والإنجاز وأن تسلم الأجيال إنجازاتها بعضها لبعض دون إلغاء لجهد سابق أو إنكار لعمل مميز ، فالبناء يرتفع مدماكا وراء آخر حتى يبلغ ذراه كما الزرع الذي ينبت ويستوي على سوقه ويطرح ثمره طيباً .
وحتى نفهم النهضة العمانية لابد أن نقرأ أعمال السلطان من خلال خطبه لأن الكلام فيها تطابق مع العمل عبر تجربة الرصد والمعاينة ، ولذا فإننا نحاول أن نتتبع الإنجازات منذ بداياتها من انطلاقها مع البيان الأول إذا جاز التعبير وإلى اليوم بعد أكثر من أربعة عقود ولنا في الإنجازات الدليل ومن التوقف عندها الشواهد .
وسيكون ذلك منهجنا في هذا الكتاب حين نستنطق العمل الجاهز في النهضة العمانية في مجالات التعليم والصحة والبنية الاساسية ( التحتية) وفي الإسكان وبناء الإنسان وفي الثقافة والفن وفي الدبلوماسية والسياسة والوساطة والبناء الامني والاستثمار والتعاون الإقليمي والدولي أو نحلل الخطاب السلطاني الذي ظل سجلاً ومعالم على الطريق باعتباره يكشف عن العمل او يعد به .
سأتتبع الخطاب لأتتبع الإنجازات وسأجعل الإنجازات تتحدث عن نفسها حين استشهد بقول القائد الذي ألهم شعبه ليقوم بها ، ولذا فإن مرجعية القول لدي ستكون الخطاب وإنجازاته ، أو الانجازات وشواهدها في الخطاب حتى تكون ملامح الكتاب أكثر تأصيلا وأكثر شواهد وأرسخ في التوثيق .
فماذا إذن عن السلطان قابوس ؟ وماذا عن السلطنة ؟ ماذا عن التوأمة بين القائد والكيان السياسي .. عن الروح والجسد عن الجسم وظله .. عن السلطنة والسلطان ماذا عن الجديد والمتجدد في مسيرة النهضة التي مازالت شابة ومازالت تطرح أكلها الطيبة بغزارة لم يسبق لها مثيل دون أن تحول الظروف الصعبة الإقليمية والدولية سواء التي قامت أو مازالت تقوم وسواء الأزمة الاقتصادية العالمية وأعراضها ، وآثارها في التأثير على الدفق الحيوي لفكرة النهضة وتطبيقاتها على الأرض حيث بقي القائد خلال نصف قرن من مسيرته الميمونة يتلمس حاجات شعبه ، ويحققها وينذر نفسه وجهده لمزيد من الانتصارات الملموسة في الجهاد الأكبر الذي اهتم به السلطان ، وهو جهاد النفس وبناء الوطن والمواطن العماني إذ لم يسجل على القائد بعد كل هذا الزمن أنه يقتطع أموال شعبه يخزنها في الخارج أو يخفيها عن أنظار العالم أو أنه يرى أن له حياة سيعيشها خارج وطنه أو أنه ينعم بحب أرض أو هواء غير أرض عمان وهوائها ، وتلك ما عكسته الوقائع وصدقته الروايات والكتب ، فالسلطان وطني عماني بالفطرة والوراثة والنسب ، وهو عماني حتى النخاع والبشرة والثقافة واللكنة والعادات والتقاليد والذوق والميول والانتساب والإحساس والانحياز ، وهو صاحب المشروع النهضوي الذي عنوانه الإنسان أولاً وأخيراً فهو الوسيلة والغاية والهدف من أجله التنمية وبسعادته تقر عين القائد المخلص .
الأموال لا تُهرب من عُمان حين ترى الربان كيف يعمل وإنما تأتي إلى عمان سواء كانت عمانية أو عربية أو أجنبية ، لتنعم بالاستقرار فتلد وتتوالد وترى كيف تنمو وتزدهر في ظل قوانين عادلة وثابتة ومستقرة وهاهي صفحات الاستثمار في عمان تفتح وهاهي أبرز المشاريع تعلن عن نفسها وقد تكاملت في البنية التحتية في الطرق والاتصالات والموانىء وهاهو النفط يعمل في البناء العماني بصورة خصبة لا يعمل امتداده في الجوار ولدى الغير مثل مايوفره النفط العماني من حصاد وفير ومن إسناد للتنمية حيث أصبح يشكل 70% من التكوين الاقتصادي الوطني ، وهو أي النفط له دوره في بناء التنمية لم يشل إرادة الإنتاج والعمل والشراكة عند العمانيين الذين هم تجار وفلاحون وأصحاب مهن وركوب البحر ، وإذا كانت التجارة بركة وعمل يفتخر به العمانيون عبر التاريخ منذ ركبوا البحار وأسسوا “صور” الأولى لتأتي ” صور ” الثانية بالفنيقيين الذين طوعوا البحار وربطوا الشرق بالغرب في تجارة التوابل والبهارات والبخور وأصناف أخرى فإن السلطان وصف نفسه بالتاجر ؛ ليحفز العمانيين على العمل وعلى التبادل السلعي لأن التجارة تحتاج إلى الانفتاح وإلى الحوار والتعامل مع الآخر ، وقبوله كما تحتاج إلى الدهاء والدبلوماسية والصبر ، وتراكم رأس المال والأخذ بمبدأ الربح وكأنه انتصار وتجنب الخسارة وكأنها هزيمة . جسد السلطان قابوس كل ذلك في تعامله مع عمان الدولة التي بناها بالنهضة ومع العمانيين الذين أذاقهم حلاوة الكسب والانتصار وأبعد عنهم مرارة الهزيمة وجنبهم الخسارة بمسؤولية سعى إليها ومازال يقودها .
نتدرج في الخطاب لنتدرج في الإنجاز ونتبع الخطى والإنجازات الداخلية العمانية والإقليمية والخارجية لندرك مالذي حدث خلال أقل من نصف قرن من انطلاقة عمان ومن تحقيق حلمها وبعث تاريخها .
إنه الفجر الجديد الذي مازال يسطع منذ نصف قرن ومازال يحمل الفصول ويمر بها ويرتبط بالتاريخ ويعانق الجغرافيا ويراكم الانجازات تلو الانجازات ، حتى غدا العماني ينتسب لوطن واحد ولعلم واحد ويرى أن له في المستقبل ما يجعله يديم الاعتزاز بالماضي .
من كتاب سلطنة وسلطان .. أمة وقائد السلطان قابوس بن سعيد / المؤلف سلطان الحطاب
يتبع الحلقة الرابعة ..