الأردن لا يظهر في العناوين الصاخبة… لكنه حاضر في كل تفصيل مهمة صامت قد لا يتصدر نشرات العالم، لكنّه في كلّ معركة تشتعل حوله، يُعيد تعريف التوازن بحكمة وصمت.
الأردن ليست قوته في صراخ الخُطب، بل في حكمة البقاء حين يصبح البقاء نفسه معجزة ، بلدٌ لا يملك فائضاً من الموارد… لكنه يملك فائضاً من البديهة ، يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت… ومتى يتركك تحترق بتأويل صمته.
لماذا لم يسقط الأردن حين سقطت من حوله الجدران؟
لأنه لا يلعب بأوراق الآخرين، ولا يوزّع الأدوار على حساب دماء الآخرين، ولا يرقص فوق جراح جيرانه ، لأنه فهم باكراً أن القوة ليست أن تطرق الطاولة… بل أن تعرف متى لا تجلس عليها أصلاً..!
الأردن لا يشبه أحداً… لأنه لم يطلب أن يشبهه أحد ولم يزاحم على دور في الفوضى، ولم يصفق للخراب، ولم يمدّ يده لتُصفّق مع الجموع الهائمة في تيه اللحظة ، هو ظلُّ رجلٍ ظلّ واقفاً حين جلس الجميع ، لم يكن الأعلى صوتاً، لكنه كان الأكثر بقاءً.
في هذا البلد، الحكمة لا تُدرّس… بل تُرضع ، من الكرك إلى الطفيلة، من السلط إلى إربد، من الرمثا إلى البادية، نَفسٌ واحدٌ يمرّ عبر الأجيال: لا تتنازل عن نفسك، حتى لو انهار كلّ ما حولك.
حين احترق الإقليم، كان الأردن واقفاً كأنّه رصيف التاريخ، شاهِداً لا يتدخّل في الجنون، لكنه لا يسمح له أن يبلغه ، لم يكن مؤثّراً بعدد جنوده، بل بعدد قراراته التي لم تخن مبادئه.
كل من راهن على سقوطه، خسر لأن الأردن لا يسقط، ببساطة لأنه لم يعتلِ وهماً ليس له ولا يبالغ في طموحه… لكنه لا يُفرّط في ذاته.
لا يُهدّد… لكنه يعرف متى يقول لا، ومتى تكون تلك “اللا” نهاية لخياراتك أنت، لا هو.
لم يكن الأردن يوماً بلدَ صدفة بل بلد الضرورة… الضرورة التي عرفها اللاجئون، والمساكين، والمشرّدون، حين فُتحت لهم الأبواب من دون منّة ، انه الضرورة التي يعرفها كلّ من خذلته بلاده، فوجد في عمّان وطناً احتياطياً دون أن يُسأل عن انتمائه.
هذا الوطن لا يغلق حدوده… لكنه لا يفرّط في أمنه ولا يصادق الجميع… لكنه لا يعادي أحداً ، يمشي في المسافة الآمنة بين اللهب والهاوية، كراقصٍ يعرف أن الخلل في التوازن يعني النهاية، لكنه يرقص رغم ذلك، بثقة مَن يعرف الأرض جيداً…
في الأردن، لا يُقاس الغنى بالنفط… بل بالثبات ولا تُقاس القوة بالعدة… بل بحجم المواقف التي لم تُبع ولا تُقاس الكرامة بالاستعراض… بل بالقدرة على قول (كفى) دون ضجيج.
الملك لا يلوّح، بل يتقدّم.
والجيش لا يتفاخر، بل يتدخّل حيث يجب، ويغادر حين يُنجز.
والشعب… هذا الشعب الذي ينام على وسادة القلق، لكنه يستيقظ على وعيٍ لا تشتريه المنابر.
الأردني لا يُقنعك بكلامه… بل بسلوكه ، هو ابن الجبل… صلبٌ لكنه لا يُخيف ، هو ابن البادية… كريمٌ لكن لا يُشترى ، هو ابن المدينة… بسيطٌ لكنه لا يُخدع.
وحين تسأله كيف صمدتم؟
ينظر إليك بابتسامة من يعرف أن الإجابة ليست في الكتب… بل في الطين، في الخبز، في القهوة المُرّة ، في الدعاء العابر قبل النوم ، يجيبك دون كلمات: لأننا لم نكن نلعب، كنا نعيش.
لقد مرّ على الأردن كل شيء:
المؤامرات ، الفتن، الحروب الباردة، والحروب الساخنة لكنه ظل، كغصنٍ يتلوى مع الريح لكنه لا ينكسر ، تكسّرت من حوله المدن، تحوّلت العواصم إلى رماد، وتشظّت الحدود… وهو ما زال يُعيد ترتيب نفسه كل صباح.
فيه مناعةٌ لا تُفهم في كتب السياسة وفيه توازنٌ لا يُقاس بمعادلات الجيوستراتيجيا وفيه دهاءٌ لا يظهر إلا حين يحتاج إلى أن يُفاجئك… ولا يفعل.
الأردن ليس مشروعاً مؤقتاً… بل درس دائم ، درس في البقاء دون صراخ ، درس في الوفاء دون ثمن ، درس في الكرامة التي لا تحتاج إلى منبر لتُعلن عن نفسها.
لهذا، حين أقول إني أحبّ الأردن، لا أعني الحب العاطفي…
بل أعني أنني أراهن عليه. أراهن على صلابته، على حكمته، على سكوته الذي يفضح الصخب من حوله.
الأردن… ظلٌّ بشريّ لا يُكسر.
وفي زمن تذوب فيه الهويات، هو ما زال يعرف من هو وفي زمن يُباع فيه كل شيء… هو ما زال يحتفظ بروحه وفي زمن يُكتب فيه المجد بالدماء أو الدولارات… هو ما زال يكتبه بالصبر.
أرأيتم الآن لماذا لا يسقط؟
لأنه ببساطة… لا يُقلِّد، ولا يتراجع، ولا يعتذر عن وجوده.
هذا هو الأردن…
ليس بلداً في الخريطة، بل نبضاً في عقل كل عربي يعرف أن ما يُحافَظ عليه بصمت… لا يُؤخذ بصخب.