عروبة الإخباري – كتب الأسير المحرر ربحي بشارات –
ما عرفنا في أساطير الأولين، ولا في تواريخ الأولياء، ولا في مدوّنات الوجع البشري عبر القرون، أمًّا شيّعت تسعةً من أبنائها دفعةً واحدة، كما شيّعتهم أمّ غزة، أمّ البطولة، أمّ الجراح، أمّ الثأر، أمّ الكرامة المكلومة: الدكتورة آلاء النجار.
أيكون في قَدَر الأرض هذا القدر من الأسى؟
أيمكن لرحمٍ أن يُنجب تسعة نجوم، ثم يطفئهم الجبن الصهيوني في لمح البصر؟
أيمكن لصدرٍ أن يُرضع تسعةً دفعةً دفعة، ثم يكفّنهم مرةً واحدة؟
يا ربّ، أي قلبٍ هذا؟
أي ليلٍ يسكنه الآن، وأي جدارٍ بقي لها تستند عليه؟!
منذ أن بزغ أولّهم بصرخة الولادة، إلى أن أفلت آخرهم بصمت القصف، كان قلبها الممدود على درب الأمومة لا يعرف يومًا إلا وقد غزل لهم ثوب حنانٍ جديد.
تسعة يا رب! تسعة من أبنائها، أنزلتهم السماء شهداء!
لو أن دماً يسقي فلسطين، لما بقي في عروقها قطرة.
لو أن أمًا تهب ما تملك من حياة، لما جاوزت آلاء.
تسعة أرواح خرجت من رحمٍ واحد، وارتفعت إلى الرحمن في لحظةٍ واحدة، في قصفٍ واحد، من عدوٍ واحد، لا يعرف من الرجولة شيئًا، ولا من الأخلاق ذرة.
لقد سبقك الحارث بن حبيب، فبكى ثمانية من بنيه، فصمت.
وسبقك أبو ذؤيب، فرثى خمسة من أولاده، فخُلد.
وسبقتك الخنساء، فودّعت أربعة، فكانت سيدة الصبر.
أما أنتِ، يا آلاء، فاخترقك القدر كالسيف، وأنتِ تصرخين في صمت، وتشهقين في سكون، وتكتبين في الأفق أعظم فصول الفداء.
إنهم لا يعرفونك، يا آلاء…
لا يعرفون أنك كنتِ تطببين الأوجاع، فتلقّيتِ أوجع ما يمكن أن يلقاه الإنسان.
لا يعرفون أنك حملتِ أبناءك في قلبك، قبل أن تحمليهم في جسدك.
لا يعرفون أن كل ليلة سهرتها، كانت بناءً في هيكل حلمك، وكل وجبة طبختها كانت دعاءً في صحن، وكل قُبلةٍ طبعتها على جباههم كانت عهدًا… فلما قصفوهم، نقضوا عهد الأمهات كلّهن.
فيا موت خذنا حيث أخذت أرواحهم!
ويا قبر وسّع لهم كما وسع قلبها!
ويا صبر الأنبياء، انزل على هذه الأم نزول المطر على الأرض المحروقة.
إنها ليست مأساة أسرة، إنها مأساة أمة.
إنه ليس قصفًا على منزل، بل قصف على الإنسانية.
إنه ليس عملاً عسكريًا، بل إعلان إفلاس أخلاقي، وجنون سادي، وعُقدة عرقية متجذّرة في النفس الصهيونية المريضة.
تسعة!
تسعة أبناء، ما بين طفولةٍ ضاحكة، وشبابٍ يشرق.
تسعة ورود، نُزعت دفعةً واحدة من حديقة بيتٍ صغير في غزة.
تسعة أرواحٍ صعدت متشابكة، وكأنهم أبَوا أن يتفرقوا في الحياة أو بعد الموت.
تسعةُ تواريخ ميلاد، ختمت بتاريخ شهادةٍ واحدة.
تسعةُ ألقاب، ومقاعد مدرسية، وضحكات في الزوايا، ورسائل على الجدران، ودفاتر مرسومة بأصابعهم، باتت كلها بلا أصحاب.
فمن يعزّيك يا آلاء؟
أتعزّيك نساء فلسطين؟
أتعزّيك خنساء الأمة في عليائها؟
أتعزّيك الجنازات التي باتت تعرفك؟
أتعزّيك المقابر التي حفظت أسماء أبنائك جميعًا؟
أم تعزّيك السماء التي فتحت لهم بابًا واحدًا، وابتلعتهم معًا؟
إننا لا نبكيك يا آلاء، بل نبكي أنفسنا…
نبكي عجزنا، وتقصيرنا، وتراخينا، وغفلتنا، واختلال الموازين من حولنا.
نبكي أمةً لا تنقلب الأرض تحت أقدامها بعد هذا المصاب.
نبكي عالماً منافقًا، يرى الجريمة ولا يصرخ.
نبكي جامعاتٍ تخرّج القتلة، وأممًا متحدة لا تعرف للعدالة اسمًا.
نبكي قلوبًا نامت، وضمائر ميتة، وحكامًا من خشب، يباركون القاتل، ويتجاهلون الشهيد.
يا آلاء، يا أمّ الشهداء التسعة، يا عنوان الطوفان الإنساني:
أقسمنا أن دماءهم لن تضيع.
وأن صرختك لن تُنسى.
وأن هذه الجريمة ستبقى وصمةً في جبين هذا العصر.
وأقسمنا أن نحملهم في دواخلنا، تسعة نجوماً، نكتب أسماءهم في الرايات، ونتلوها في سجودنا، ونزرعها في أحلام أجيالنا القادمة.
يا رب، بحق الحزن الذي لا يُقاس، والوجع الذي لا يُحتمل، والثكل الذي لا يُطاق، اجعل الجنة دارهم، والصبر رداءها، والثأر موعدنا جميعًا.
ويا أهل الأرض:
ما بعد آلاء، ليس كما قبلها.
ففي كل قطرة دم من تسعةٍ، يوجد بركان.
وفي كل اسمٍ من أبنائها، توجد ثورة.
وفي كل لحظة وجعٍ عاشتها، تنبت راية، ويولد جندي.
فبوركتِ يا أمًّا من طرازٍ لم تعرفه الأرض إلا نادرًا…
وبورك ثراكِ، إن لحقتِ بهم، فلكِ في الجنة تسعة مقاعد من نور…
وبورك ثأرهم، إن أتيناه، فسيُذكر اسمك في كل فجر، ومع كل نصر، وعلى كل بابٍ يُفتح في درب التحرير.
الأسير المحرر ربحي بشارات