عروبة الإخباري – طلال السكر –
بعض الأسماء حين تُذكر، تستغني عن كل توصيف مهني أو لقب وظيفي، إذ يكفي أن تُقال لتستحضر معها هالة من الإبداع والحضور والجدارة. وماجدة داغر، واحدة من هذه الأسماء التي لا تحتاج إلى تقديم. إنها الشاعرة التي لا تكتب القصيدة، بل تجسّدها، وتعيشها وتنفخ فيها من روحها، فتغدو الكلمة لحماً ودمًا، وجمرة وشهقة، وصلاة على إيقاع الوجدان.
هي الأديبة التي لا تطرق أبواب اللغة، بل تفتح من أجلها، وعلى مصاريعها لتجعلها تفصح عن مكنونات تتجاوز المألوف، وتعبر عن عوالم قلّ من يتجرأ على اقتحامها. وماجدة، الإعلامية القديرة، لا تنقل الخبر كحدث عابر، بل تصوغه كقصة وجود، تمنحه نَفَس المعنى، وتبعث فيه حياة من رؤيتها العميقة، فكأنها تعيد تشكيل العالم عبر المايكروفون والكلمة.
عندما زارت نقابة محرري الصحافة اللبنانية وقدّمت ديوانها الجديد “الناجيات من جمع التكسير”، لم تكن مجرّد شاعرة تسلّم كتابًا لنقيب، بل كانت سفيرة لذاكرة نسوية عصيّة على الانكسار، ذاكرة من نار وندى، نسجتها بخيوط الألم والمعرفة والجرأة، فكان اللقاء أكثر من احتفاء؛ كان طقسًا ثقافيًا وإنسانيًا عالي الدلالة.
ديوانها الأخير لا يُقرأ ككتاب شعر فقط، بل كبيان وجودي، كمرافعة لغوية عن الذات الأنثوية التي صمدت في وجه الجمع والتكسير معًا. عنوانه وحده يكفي ليعلن عن نقلة نوعية في التعاطي مع اللغة كأداة مقاومة: “الناجيات من جمع التكسير” ليس مجرّد استعارة لغوية، بل صرخة شعرية ضد كل ما يُقصي ويُهمّش ويكسر. هو إعلان عن النجاة كفعل إبداعي، والأنثى فيه ليست موضوعًا للشفقة، بل ذاتًا للانبعاث.
وكان لائقًا أن يستقبلها النقيب جوزف القصيفي بحفاوة تليق بمقامها، ويكرّمها بميدالية النقابة، لا لأنها فقط شاركت في أمسية “نغني للحرية”، بل لأنها دائمًا في قلب القضايا الكبرى: في الشعر، في الصحافة، وفي الدفاع عن القيم. لقد كانت تلك الأمسية، المتزامنة مع ذكرى شهداء الصحافة، مناسبة نادرة التلاقي بين الجمال والمعنى، بين الصوت الحر والكلمة الحرة، وماجدة، كعادتها، لم تكن مجرّد ضيفة، بل كانت ركيزة في المعنى والموقف.
إن تكريم ماجدة داغر لم يكن تكريمًا لشاعرة فقط، بل كان اعترافًا ضمنيًا بقيمة الحضور الثقافي النسوي في المشهد اللبناني، وتأكيدًا على أن المرأة حين تكتب بصدق، تُحدث فرقًا، وتُحدث وعيًا.
ماجدة ليست مجرد اسم أدبي أو إعلامي لامع، بل هي حالة ثقافية متكاملة، ضمير حيّ يكتب بمداد من التزام، وإحساس عميق بأن الكلمة مسؤولية، وأن الشعر لا يُقال فقط بل يُعاش. هي الوتر المشدود بين جرح الوطن وبلسمه، بين الحنين والانتصار، وهي شراع ثقافي يأبى الانكسار حتى في أقسى العواصف.
ففي زمن يتكاثر فيه الضجيج ويقلّ فيه المعنى، تأتي ماجدة داغر لتذكّرنا أن الإبداع لا يزال ممكنًا، وأن القصيدة ما زالت تملك القدرة على الإنقاذ، لا بالكلمات فقط، بل بالصدق والجرأة والجمال.