عروبة الإخباري –
تلوح بعض الجماعات بالدعوة الى عصيان مدني في الأردن كتعبير عن التضامن مع أهلنا في غزة، واذا كان يمكن تفهم هذا التوجه بانه نتاج فرط الانفعال والسخط على الاعتداءات الوحشية المستمرة التي لا يتورع الاحتلال عن القيام بها يوميا دون أدنى وازع من ضمير او اخلاق، فان المتابع يحق له التساؤل عن المقصود بالعصيان المدني ومدى ملائمته كأداة لهذا الغرض؟
باستظهار المقصود بالعصيان المدني نجد انه ينصرف الى الوسيلة التي يلجا اليها افراد من المجتمع للتعبير عن عدم التوافق مع السلطة والاحتجاج على اعمال الحكومة بدون استخدام العنف، ويظهر هذا السلوك في عدة اشكال منها المظاهرات السلمية وتوزيع منشورات الاحتجاج والاضراب الكلي او الجزئي، وقد حدد الفيلسوف الأميركي جون رولز طبيعة العصيان المدني بالفعل السياسي الجماهيري الواعي الذي يخرق القانون دون ان يفقد طابعه السلمي ولكنه مع ذلك يوافق روح التشريع ويهدف الى تعديل القوانين او تغيير سياسة الحكومة، وبذلك فالعصيان المدني صيغة للعمل السياسي يلوذ به الافراد عندما تفشل وسائل الصراع السياسي الأخرى، وتنبع طبيعته السياسية ليس فقط لانه موجه ضد الأغلبية التي تستحوذ على السلطة، وانما لان المبادئ السياسية هي التي تبرره وتدفع به الى الواجهة واهمها العدالة التي يستلهمها الدستور وتسترشد بها المؤسسات الاجتماعية عامة.
واذا رجعنا الى اشهر نماذج العصيان المدني في العصر الحديث نجدها لا تخرج في جوهرها عن المطالبة بالعدالة وتحقيق المساواة بين الافراد، مثلا الاضراب العام والمظاهرات السلمية التي اندلعت في روسيا عام 1905 كانت بدافع المطالبة بتحسين ظروف العمل وحق التنظيم النقابي وحرية التعبير للعمال، وما دعا اليه المهاتما غاندي والتزم به كان للاحتجاج على تعسف سياسة الاستعمار البريطاني تجاه الشعب الهندي، ودعوة مارتن لوثر كنج تميزت بانها احتجاج على التمييز العنصري ضد المواطنين السود، ونلاحظ ان جميع هذه الحالات وما شابهها يجمع بينها انها كانت للاحتجاج على الحكم بشأن داخلي اهدرت فيه العدالة او طغت فيه سياسة عدم المساواة، ولم يكن الشأن الخارجي او السياسة الخارجية للدولة يوما موضوعا للعصيان المدني.
وبالعودة الى حالة التضامن مع أهلنا في غزة فان الدعوة الى عصيان مدني في الأردن ينطوي على مغالطة سياسية وأخرى اقتصادية، فمن الناحية السياسية فان اعلان الحرب وابرام السلم عمل سيادي ينحصر اختصاص القيام به في الحكومة بوصفها سلطة حكم وليس سلطة إدارة، وتقدير مدى ملائمة هذا العمل يقع في تصنيف علاقة الدولة بدولة أخرى وليس في نطاق علاقتها بأفراد شعبها وما يتصل بهذه العلاقة الداخلية من ضرورة استقامتها على مبدأ العدالة والمساواة، وبذلك تغدو الدعوة الى عصيان مدني فاقدة لمبررها السياسي بما يتصل بقرارات الحكومة حول هذه الحرب، خصوصا انه لا يخفى على احد ان القيادة الأردنية تحشد حملة دبلوماسية نشطة في الشرق والغرب تكشف وحشية العدوان وتداعياته على الاستقرار في المنطقة وتدعو الى وقف الحرب شعورا بواجبها الديني والأخلاقي تجاه الاهل في غزة وممارسة لدورها السياسي كدولة في عين العاصفة يلحق مصالحها ضررا بالغا جراء استمرار هذه الحرب، ومن الناحية الاقتصادية فالأردن ومنذ بداية الاعتداء بادر بتسيير مساعدات إنسانية منتظمة الى الاهل في غزة سواء من الغذاء او الدواء او مستلزمات الايواء بغرض التخفيف من معاناتهم ودعم صمودهم، وهذه المساعدات يدفع بها الأردنيون عن طيب خاطر وشعورا بالمسؤولية تجاه أهلنا الصامدون هناك، واذا علمنا ان الاضراب عن العمل ليوم واحد في الأردن يكلف الأردن خسائر بملايين الدنانير تلحق ضررا بالاقتصاد الأردني ولا تخدم أهل غزة، فكيف يمكن فهم جدوى العصيان المدني وتبريره، ومن المستفيد من خلط الأوراق وإرباك المشهد ؟!!