محمد رضا بهنام* – (كاونتربنش)
“انهض، قف، دافع عن حقوقك.
انهض، قف، لا تتخل عن النضال”.
- بوب مارلي، ملحن جامايكي ورائد لموسيقا الريغي-
تتجذر حقوق الإنسان في الأفكار القديمة عن المدنية والمساواة والعدالة. ومع أن المفهوم يُستخدم بكثافة، فإنه قليلًا ما يتم تأمله.
يصبح الاعتقاد الفلسفي بأن بعض الحقوق متأصلة وغير قابلة للتصرف بحكم الوجود البشري حقيقة قاسية عندما يتم إنكار هذه الحقوق. ويبرز هذا بشكل خاص في خبرة الشعب الفلسطيني، الذي اضطر إلى النضال من أجل حقوقه غير القابلة للتصرف على مدى 107 سنوات، وثلاثة أشهر، وعشرة أيام حتى كتابة هذه السطور (وما يزال العدد في ازدياد).
بدأ انتهاك حقوق الفلسطينيين الإنسانية فعليًا يوم الجمعة، 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، عندما وضع وزير الخارجية البريطاني والصهيوني المسيحي، جيمس بلفور، توقيعه على رسالة موجهة إلى المصرفي اليهودي البريطاني ليونيل روتشيلد، وعد فيها الاتحادَ الصهيوني في أوروبا بأرض فلسطين. بذلك بدأت الكارثة التي ما تزال مستمرة.
ثم، بحلول نهاية حرب العام 1967، كانت إسرائيل قد استولت على فلسطين التاريخية بأكملها. وإضافة إلى الاستيلاء المشؤوم على أرضهم وأملاكهم، عانى الفلسطينيون أيضًا من فقدان مجتمعهم السياسي والحماية التي كان يوفرها.
أدركت المنظرة السياسية في القرن العشرين، هانا أرندت (1906-1975)، حقيقة أنه لا يوجد أي ضمان لحقوق الإنسان خارج السلطة العليا للمجتمع السياسي. ووصفت كون المرء بلا دولة بأنه بالضبط غياب “الحق في التمتع بالحقوق”، مشيرة إلى أن وجود الدولة هو شرط مسبق لحماية حقوق الإنسان الأخرى. واعتقدت أرندت أن المواطنة توفر الحماية القانونية والحقوق التي تمنحها دولة فاعلة، يجعل وجودها الأفراد أقل عرضة لانتهاك حقوقهم.
حرصت إسرائيل، بدعم غير محدود من الولايات المتحدة، على التأكد من أن لا تصبح فكرة وجود دولة فلسطينية تتمتع بالوضع القانوني لحماية مواطنيها حقيقة واقعة أبدًا. ومع ذلك، لم يتمكن الإسرائيليون، مهما حاولوا، من سرقة كرامة الفلسطينيين أو تثبيط عزمهم على امتلاك “الحق في أن تكون لهم حقوق”.
في هذا السياق، شعرت بأنني ملزم بلفت الانتباه إلى مفهوم حقوق الإنسان وتطوره المؤسسي ومعناه بالنسبة للفلسطينيين.
تم تعريف حقوق الإنسان بأنها الحريات، والاستحقاقات، والامتيازات الأساسية التي ينبغي أن يتمتع بها أي فرد بحكم كونه إنسانًا. إنها اعتراف بالكرامة والقيمة المتأصلة لكل شخص، التي تسمح للناس بالعيش بعيدًا عن الخوف ونحو الازدهار.
تطلب الأمر كل الأهوال والانتهاكات التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية لدفع مسألة حقوق الإنسان إلى المسرح والضمير العالميين. وكان التحرك مدفوعًا بالرغبة في ضمان عدم حدوث إبادة جماعية “مرة أخرى”، وضمان عدم حرمان أحد من الحياة، والحرية، والعدالة، والغذاء، والمأوى والجنسية. لهذا الغرض، أنشئت “منظمة الأمم المتحدة” في تشرين الأول (أكتوبر) 1945 وتم اعتماد “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في كانون الأول (ديسمبر) 1948. وأصبح هذا الإعلان الأساس المقبول على نطاق واسع للقانون الدولي لحقوق الإنسان.
تجدر ملاحظة أن الفلسطينيين يتمتعون باثنين فقط من الحقوق والحريات الثلاثين المحدَّدة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وترِد العناصر الرئيسية لقانون حقوق الإنسان في المادة 3:
”لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمن الشخصي”. وقد قُتل مئات الآلاف من الفلسطينيين لمجرد مطالبتهم بـ”حقهم في الحياة” الأساسي.
منذ تمرد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ذبحت إسرائيل ما يقرب من 48.964 من سكان غزة، وتوفي 62.413 آخرين من المجاعة القسرية، وهناك 14.000 آخرين في عداد المفقودين. وخلال الفترة نفسها، قتلت إسرائيل 896 فلسطينيًا في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. كما قُتل أكثر من 400 شخص في غزة منذ أن انتهكت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في كانون الثاني (يناير) واستأنفت حملتها للإبادة الجماعية.
لم تترك “منظمة العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” و”بتسيلم” والعديد من وكالات الأمم المتحدة مجالاً للشك في أن الفلسطينيين، في ظل حكم الفصل العنصري العسكري الإسرائيلي، قد حُرموا من الحقوق الأساسية الموصوفة في “الإعلان”.
وبالنظر إلى أن الفلسطينيين بلا دولة، فإنه لا يمكن تطبيق المواد 16 و21 إلى 24 عليهم:
* إنهم لا “يولَدون أحرارًا ومتساوين” (المواد 1 و2 و3).
* يتم إخضاعهم “للتعذيب والمعاملة والعقوبات اللاإنسانية والمهينة” (المادة 5).
* إنهم ليسوا “متساوين أمام القانون” (المواد من 6 إلى 11).
* إنهم “عرضة للتدخل في الخصوصية، والأسرة، والمنزل” (المادة 12).
* ليست لديهم “حرية التنقل” (المادة 13).
* “حرموا من جنسيتهم” (المادة 15).
* وهم “محرومون تعسفًا من الممتلكات” (المادة 17).
* لا يملكون “الحق في حرية الفكر، والضمير، والرأي، والتعبير، والدين” (المادتان 18 و19).
* إنهم ليسوا “أحرارًا في التجمع السلمي والمشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع” (المادتان 20 و27).
* إنهم غير قادرين على “السعي إلى مستوى معيشي لائق وتعليم ورعاية صحية لائقين” (المادتان 25 و26).
يتعرض الفلسطينيون في غزة والأراضي المحتلة بشكل روتيني للتهجير القسري المنهجي الذي تدبّره وتشرف عليه الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان. وهم لم يعيشوا قط في أمن من العنف التعسفي، وهو أبسط حقوق الإنسان. وفي ما يلي مثالان حديثان من بين معاناة عقود من الحقد الإسرائيلي:
أصدرت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأرض الفلسطينية المحتلة” تقريرًا في آذار (مارس) 2025، تتهم فيه إسرائيل بالاستخدام المنهجي للعنف الجنسي والإنجابي وغيره من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023، من أجل “الهيمنة على الشعب الفلسطيني وقمعه وتدميره كليًا أو جزئيًا”.
تشكل الهجمات الإسرائيلية المستهدفة على نظام الرعاية الصحية في غزة انتهاكًا صارخًا للقوانين الإنسانية الدولية وقوانين حقوق الإنسان. ووفقًا لـ”منظمة الصحة العالمية”، فإنه حتى أيلول (سبتمبر) 2024، أصيب 22.500 من سكان غزة بجروح غيرت حياتهم بسبب استخدام إسرائيل العشوائي للذخائر المتفجرة. وإضافة إلى الإصابات الشديدة في الأطراف، لاحظت المنظمة حالات بتر وصدمات في الحبل الشوكي وإصابات الدماغ الرضحية والحروق الكبرى. وأشارت الأمم المتحدة إلى أن غزة تضم أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في العالم.
تجدر ملاحظة أن الولايات المتحدة نفسها بدأت تشعر بتأثير دعمها غير النقدي لانتهاكات إسرائيل العديدة للقانونين الدولي والإنساني وعنفها المروِّع ضد الفلسطينيين. وكان كلارنس دارو، محامي “اتحاد الحريات المدنية” المعروف، الذي اشتُهر بدفاعه في “محاكمة سكوبس” في العام 1925، محقًا في الإشارة إلى أنه “لا يمكنكَ أن تحمي حرياتك في هذا العالم إلا من خلال حماية حرية الرجل الآخر. لا يمكنك أن تكون حرًا إلا إذا كنتُ أنا حرًا”.
الآن، أصبحت الضمانات التي حمت منذ فترة طويلة حق الأميركيين في التعبير والتجمع والحرية تتآكل نيابة عن إسرائيل.
باستخدام اتهامات ملفقة بمعاداة السامية والإرهاب -مستلة مباشرة من كتاب قواعد اللعبة الإسرائيلي- أطلقت إدارة ترامب حملتها لمطاردة الساحرات ضد النشطاء المؤيدين للفلسطينيين ولسحق الانتقادات المشروعة لإسرائيل.
يشكل اختطاف طالب جامعة كولومبيا والمقيم الدائم في الولايات المتحدة، محمود خليل، تجسيدًا لهذا التآكل. في مساء يوم 8 آذار (مارس) 2025، قام بإلقاء القبض عليه بطريقة تعسفية (من دون أمر قضائي) موظفو إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك في نيويورك، وتم احتجازه في نيوجيرسي، ثم نقله سرًا إلى مركز احتجاز في لويزيانا، وحُرم من الاتصال بعائلته والمحامين، وهُدد بالترحيل. وما يزال خليل مسجونًا على الرغم من عدم اتهامه بارتكاب أي جريمة. ومنذ اعتقاله غير القانوني، تم أيضًا اعتقال لقاء كردية، وهي طالبة فلسطينية تدرس في جامعة في كولومبيا، وتواجه الترحيل أيضًا.
كانت “جريمة” خليل والآخرين الذين يواجهون الترحيل أو الطرد من الجامعات أو تعليق دراستهم فيها هي انتقاد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة والاحتجاج عليها. وقد هدد الرئيس دونالد ترامب باعتقال جميع الطلاب الدوليين الذين يشاركون في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، في تجاهل مطلق لحقوقهم كما هو منصوص عليها في “التعديل الأول”.
تشبه الاعتقالات التعسفية وغياب الإجراءات القانونية الواجبة التي تجري حاليًا في الولايات المتحدة بشكل واضح ما يختبره الفلسطينيون تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي منذ ثمانية عقود. وقد وجدت ”منظمة العفو الدولية” أن إسرائيل استخدمت بشكل منهجي الاعتقال الإداري، الذي غالبًا ما يكون لفترات طويلة ومن دون تهمة أو محاكمة، كأداة لاضطهاد الفلسطينيين.
كشف رد واشنطن القاسي على منتقدي الولايات المتحدة لإسرائيل وازدراء تل أبيب لحقوق الإنسان الفلسطيني عن مدى التشابه والتوافق بين النظامين. ولم تؤد ما تسمى باتفاقيات “السلام” و”اتفاقيات التطبيع” إلا إلى ترسيخ قبضة إسرائيل الخانقة على فلسطين وتكثيف تصميمها المنهجي على إخماد مطالبات الفلسطينيين بالحرية وتقرير المصير جملة وتفصيلًا.
كما حدث، ضلت الولايات المتحدة طريقها كثيرًا منذ أن أعلن الرئيس جيمي كارتر تفاني أميركا في الالتزام بحقوق الإنسان؛ وقال في خطاب تنصيبه في 20 كانون الثاني (يناير) 1977: “لأننا أحرار، لا يمكننا أبدًا أن نكون غير مبالين بمصير الحرية في أي مكان آخر. إن إحساسنا الأخلاقي يملي علينا تفضيلاً واضحًا لتلك المجتمعات التي تشاطرنا الاحترام الدائم لحقوق الإنسان”.
من المثير للاهتمام ملاحظة أن “الحس الأخلاقي” لإدارة كارتر دفعها إلى انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي السابق، وأوغندا، وغيرهما، ولكن ليس إسرائيل؛ كان أن منحت الإدارة ميزة “الاستثنائية” لواحد من أسوأ المنتهكين. فقط بعد ترك منصبه، عندما أصبح أقل خوفًا من اللوبي الإسرائيلي، تحدث كارتر بحرية عن “عدم احترام إسرائيل الدائم لحقوق الإنسان”، كما أوضح في كتابه الصادر في العام 2006 بعنوان “فلسطين السلام وليس الأبارتيد”.
لعلها مفارقة عصرنا حقيقة أن أقدم المصادر المكتوبة التي تتناول حقوق الإنسان خرجت من غرب آسيا -أسطوانة كورش (539 قبل الميلاد) من بلاد فارس؛ و”أفيستا الزرادشتية” (الرابط الأول للأديان التوحيدية)؛ و”قانون حمورابي” البابلي؛ والكتاب المقدس والقرآن- بينما المنطقة اليوم موقع لبعض من أسوأ جرائم حقوق الإنسان.
كان الهدف من “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” هو إقامة عالم أكثر إنسانية؛ وبالتالي، ثمة مسؤولية متأصلة فيه عن حماية المضطهدين. وهذا يعني حاليًا حماية حق الفلسطينيين في أن تكون لهم حقوق، وبالتالي حماية حرياتنا نحن.
* د. محمد رضا بهنام Dr. M. Reza Behnam: عالم سياسي متخصص في تاريخ وسياسات وحكومات الشرق الأوسط. أسهم بشكل واسع في منشورات مثل “ذا بالستاين كرونيكل” و”تيكون ماغازين”، و”زد نتوورك”، و”كاونتر بنش”، حيث قدم تحليلات معمقة حول قضايا الشرق الأوسط وسياسة الولايات المتحدة الخارجية. كما أنه مؤلف الكتاب الحائز على جوائز “الأسس الثقافية للسياسة الإيرانية” Cultural Foundations of Iranian Politics، الذي يستكشف الجذور التاريخية والثقافية للمشهد السياسي في إيران. يُعرف عمله بقدرته على تقديم رؤى دقيقة حول القضايا الجيوسياسية المعقدة، لا سيما المتعلقة بالشرق الأوسط.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Palestinian Rights Are Human Rights