عروبة الإخباري –
بيروت تايم –
الإنكار هو إحدى الآليات النفسية التي يُلتجأ إليها للتهرّب من مواجهة الحقائق غير المريحة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. يتمثل الإنكار في رفض الإعتراف بحقائق مهددة أو مؤلمة، ويُعتبر نوعًا من الحماية النفسية التي تسمح للفرد بالتكيف مع الواقع بطرق قد تكون غير صحية على المدى الطويل. ومع مرور الزمن، تطور الإنكار ليأخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا، ليصبح أداة أيديولوجية تُستخدم لأغراض سياسية أو إجتماعية لتشويه الحقائق أو تحريفها. وبذلك، يتحول الإنكار إلى آلية تؤثر في المجتمعات والسياسات بشكل أوسع. وقد أثبت العديد من الدراسات النفسية والإجتماعية أنّ الإنكار ليس مجرد ظاهرة فردية، بل إنّه يمكن أن يصبح ظاهرة جماعية، تؤثر على مجموعة من الناس أو حتى على دول بأكملها.
الإنكار في السياقات النفسية: بين الحماية والتدمير
في السياق النفسي، يُعتبر الإنكار آلية دفاعية يختارها الفرد لتجنّب الصدمة النفسية أو القلق الناتج عن المواجهة لحقائق قاسية. على سبيل المثال، قد يُنكر الشخص الذي فقد أحد أحبائه وفاته لفترة من الزمن كآلية للتكيف مع الفقد. وبذلك، يعطي الفرد نفسه الوقت اللازم لقبول الواقع تدريجيًا. لكن في بعض الحالات، يتحوّل الإنكار إلى حالة مزمنة، حيث يصبح الفرد غير قادر على مواجهة الواقع بشكل كامل، مما يعيق نموه النفسي والتكيف مع الحياة. في هذا السياق، قدم عالم النفس سيغموند فرويد دراسة موسعة حول آليات الدفاع النفسي، مشيرًا إلى أنّ الإنكار يُستخدم عندما يواجه الشخص مواقف لا يستطيع عقله استيعابها أو تقبلها (فرويد، 1923).
الإنكار في السياقات الجماعية والسياسية: عندما يصبح أداة للتلاعب
إلى جانب كونه آلية فردية، يتحوّل الإنكار في بعض الأحيان إلى ظاهرة جماعية. وتُظهر الأبحاث أنّ المجتمعات أحيانًا تُنكر الحقائق الكبيرة تحت ضغوط سياسية أو إجتماعية. وعلى سبيل المثال، لقد مرّ قرن على عملية القتل الجماعي الممنهج للأرمن وطردهم التي حصلت في أراضي الدولة العثمانية على يد حكومة جمعية الاتحاد والترقي، دون أن تظهر الجمهورية التركية أي بوادر نقد ذاتي أو إعتراف لمواجهة ماضيها المبيد ، خلال المائة عام الماضية، شهدنا كيف لم تكتفِ تركيا بمحاولة القضاء على الأرمن جسديًا، بل سعت أيضًا إلى محوهم من الذاكرة من خلال القوة السياسية، القمع، أو حتى العنف الصريح. بعد أن كان الوجود الأرمني في الأناضول لقرون، تقلصت أعدادهم إلى أقلية ضئيلة في تركيا، حيث يُنظر إلى كون المرء أرمنيًا — أو حتى مرتبطًا بأي شيء له علاقة بالأرمن — على أنه أمر مهين.
والى الإنكار السياسي الجلي في ميانمار في جنوب شرق آسيا، حيث تُظهر الأزمة الإنسانية في ولاية راخين بميانمار نموذجًا صارخًا للإنكار السياسي، حيث يتم استخدام البيروقراطية والقيود الأمنية كأدوات لحرمان السكان من حقوقهم الأساسية. فمنذ إستئناف الصراع في 13 نوفمبر 2023، تم فرض قيود شديدة على وصول المساعدات الإنسانية، مما أدى إلى انهيار الخدمات الصحية وانخفاض حاد في الإمدادات الطبية.
إنكار الوصول إلى الرعاية الصحية
على الرغم من أنّ منظمة أطباء بلا حدود عملت في ولاية راخين منذ عام 1994، إلا أنّ القيود الإدارية والسياسية منعت استمرار أنشطتها. فقد أُلغيت تصاريح السفر، مما أدى إلى إغلاق جميع العيادات المتنقلة الـ 25 التابعة للمنظمة. نتيجة لذلك، انخفضت الاستشارات الطبية من 6,696 في سبتمبر 2023 إلى 236 فقط في أبريل 2024، ما يعني أنّ آلاف المرضى حُرموا من العلاج.
وأيضاً في الحالات الطبية الطارئة أو الحرجة، فلم يُسمح للمرضى بالوصول إلى المستشفيات. ففي أكتوبر 2023، تمكنت المنظمة من إحالة 264 مريضًا، ولكن بحلول مارس 2024، انخفض الرقم إلى 28 فقط بسبب القيود المفروضة. هذا عدم الإعتراف المتعمد للرعاية الطبية يهدد حياة السكان، خاصة من أقلية الروهينغا، الذين يعانون أصلًا من إضطهاد وقيود شديدة على تحركاتهم.
أما إنكار وصول الإمدادات الطبية، فلم يقتصر الظلم السياسي على منع المرضى من العلاج، بل امتد ليشمل حظر وصول الأدوية الأساسية. فالقيود المفروضة على نقل الإمدادات بين المناطق أدت إلى نقص حاد في المضادات الحيوية وأدوية علاج الأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم. كما حُظرت بعض المستلزمات مثل الفوط الصحية، بحجة إمكانية استخدامها في وقف النزيف، مما يعكس استغلال السلطة لفرض مزيد من المعاناة.
(Oreskes, 2004).
الإنكار: من الإبادات الجماعية إلى التغيّر المناخي
Lempert & Groves, 2010).
الإنكار السياسي وتوجيه الرأي العام
يُعد الإنكار أداة فعالة في السياسة، حيث يمكن استخدامه لتوجيه الرأي العام أو لتبرير مواقف معينة تتناسب مع الأيديولوجيات السياسية. في هذا السياق حيث يتم تحريف الحقائق أو تجاهلها لتلبية أهداف سياسية قصيرة الأجل.
وفقًا لتقرير «مرصد الاقتصاد اللبناني» الصادر عن البنك الدولي في خريف 2021 بعنوان «الإنكار العظيم»، فإنّ الإنهيار المتعمد في لبنان يتم تدبيره من قبل النخبة الحاكمة التي استحوذت على الدولة واستفادت من ريوعها الإقتصادية على مدى عقود. ولا يزال هذا الإستحواذ قائمًا رغم خطورة الأزمة، التي تُعد من بين أسوأ عشر انهيارات اقتصادية، وربما من بين أسوأ ثلاث انهيارات على مستوى العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر. وقد أصبح هذا الانهيار يهدد الإستقرار طويل الأمد والسلم الاجتماعي في البلاد. كما أنّ النموذج الاقتصادي الذي اعتمد بعد الحرب على تدفقات رأس المال الكبيرة والدعم الدولي مقابل وعود بالإصلاح قد أفلس. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذا الانهيار يحدث في بيئة جيوسياسية شديدة الاضطراب، مما يجعل الحاجة إلى معالجة الأزمة الملحة أكثر إلحاحًا.
أما بالنسبة للحرب الاسرائيلية الاخيرة على لبنان فيُظهر حزب الله أيضًا نوعًا من الإنكار الجماعي الذي يرتبط بالواقع السياسي في لبنان. ففي العديد من التصريحات الرسمية لحزب الله، يتم إنكار التحديات الكبرى التي تواجه لبنان والحزب
في لبنان، يُعدّ الإنكار أحد أشكال الفساد المستشري الذي يعيق أي محاولة للتقدّم أو الإصلاح. ففي بلد يئن تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية، يصبح الإنكار أداة للتغطية على الفشل والتواطؤ، مما يسمح للفساد بالاستمرار دون محاسبة. أما الإنكار الشخصي، فيتجسد كذريعة للتهرّب من مواجهة الواقع، حيث يحاول الأفراد تجنب تحمل المسؤولية عن الأوضاع المتدهورة. هذا الإنكار لا يقتصر فقط على مستويات السلطة، بل يمتد إلى أفراد المجتمع الذين يغلقون أعينهم عن الحقائق المؤلمة خوفًا من التغيير أو من التحديات التي قد تطرأ عليه.
المراجع:
فرويد، سيغموند (1923). «التحليل النفسي والآليات الدفاعية». مجلة علم النفسي.