Table of Contents
يانيس فاروفاكيس – (كومون دريمز)
قد تكون مجرد بذور، ولكن هذه هي الطريقة التي تولد بها حياة جديدة.
* * *
لدى مشاهدة اعترافات الجنود الإسرائيليين الموثقة بالفيديوهات عن نواياهم وأفعالهم المندرجة في إطار الإبادة الجماعية من ناحية، ومشاهدة بث الفلسطينيين على الهواء مباشرة لمصارعهم وتدميرهم من ناحية أخرى، سيكون من السهل دائمًا أن يرفع المرء يديه في الهواء، ويركن إلى اليأس، ويرغب في إغماض عينيه عن الوحشية، ويعثر على السلوى في النسيان والانفصال.
لكنّ الاستسلام لليأس ليس خطأ أخلاقيًا فحسب -بل من الخطأ، من الناحية الواقعية أيضًا، عدم توقع أي شيء جيد. الأشياء تتغير كل يوم. ونعم؛ ثمة بذور للأمل مزروعة مُسبقًا في تراب أرض فلسطين القديمة المنقوع بالدم. ربما تكون مجرد بذور، ولكن هذه هي الطريقة التي تولد بها حياة جديدة.
وإذن، دعونا نلقي نظرة على بذور الأمل التي ترسي لها جذورًا تحت الأنقاض.
1. إسرائيل لا تنتصر في ساحة المعركة
دُمرت غزة. وسكانها يقفون في طابور الموت. ومع ذلك، يعرف الأذكياء في الجيش الإسرائيلي جيدًا أن الدمار الذي أحدثوه لا يترجم إلى انتصار. بعد خمسة عشر شهرًا من اجتياحهم مرة أخرى للسجن المفتوح الذي كان قطاع غزة منذ العام 1948، ما يزالون غير قادرين على السيطرة على أكثر من جزء صغير منه في كل مرة. أعمال المقاومة المسلحة، بما فيها التفجير المنتظم للدبابات الإسرائيلية الجبارة، ما تزال مستمرة.
ويعرف ضباط الجيش الإسرائيلي أيضًا أن الهدف المعلن لقادتهم السياسيين، هدف القضاء على “حماس”، لا يمكن أبدًا تحقيقه بطريقة يمكن إثباتها، مهما يكن عدد الذين يقتلونهم من مقاتلي “حماس”. وكما قال لي جنرال إسرائيلي سابق، فإنه “حتى لو قتلنا معظم سكان غزة قبل أن نعلن النصر، فإن فتى مراهقًا واحدًا يرفع علم ’حماس‘ فوق كومة من الأنقاض سيثبت أننا فشلنا”.
والشيء نفسه يحدث في لبنان. نعم، قتلت إسرائيل الكثير من قيادة “حزب الله”؛ ونعم، نجح وقف إطلاق النار الذي فرضته على “حزب الله” في وقف إطلاق صواريخ الحزب تضامنًا مع المقاومة الفلسطينية في الجنوب. ومع ذلك، فُرض وقف إطلاق النار على إسرائيل أيضًا بسبب عجز جيشها عن المغامرة من دون تكبد خسائر فادحة بالتوغل لأكثر من بضعة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية.
ولكي لا ننسى، ليس صحيحًا ببساطة أن “حزب الله” اضطر إلى قبول وقف إطلاق النار لأن ترسانته الصاروخية دُمرت: لقد وقعت إسرائيل على وقف إطلاق النار بعد ساعات من تساقط الصواريخ على حيفا، بل وعلى تل أبيب نفسها في الحقيقة.
بعبارات أخرى، سوف يتم تذكر العام الماضي باعتباره مفارقة قاسية: دمرت إسرائيل غزة وجزءًا كبيرًا من جنوب لبنان، بشكل أساسي من الجو، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا في السيطرة على الأرض.
ويقترب الوقت الذي يدرك فيه المجتمع الإسرائيلي أن آلاف الجنود الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم أو أصيبوا بجروح خطيرة كانوا ضحايا قيادة وضعت في نهاية المطاف مصالح الشعب الإسرائيلي في مرتبة منخفضة جدًا في قائمة أولوياتها.
هذا ما يؤكده أيضًا استعداد الحكومة الإسرائيلية الدائم للكذب بشأن خسائرها في ساحة المعركة: قارن العدد المنخفض للضحايا الذين تم الاعتراف بهم رسميًا بأكثر من عشرين ألف جندي تقول السلطات الصحية الإسرائيلية إنه تم إدخالهم إلى مراكز إعادة التأهيل المخصصة للمحاربين القدامى.
2. الاقتصاد الإسرائيلي دخل في “دوامة انهيار”
بالانتقال الآن إلى تأثير الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي على المدى المتوسط والطويل (وهو أمر ذو أهمية كبيرة من منظور قدرة دولة الفصل العنصري على إعادة إنتاج نفسها من خلال الحرب والدمار المالي)، من المفيد قراءة رسالة موقعة من اقتصاديين إسرائيليين، بمن فيهم دان بن ديفيد، الذي يشرح كيف أن المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية تتوقف على قطاع تكنولوجيا فائقة يبلغ عدد العاملين فيه 300 ألف شخص على الأكثر (بمن فيهم الدكاترة، والعلماء، والأكاديميون وما إلى ذلك) وجهة نظره؟ إذا غادر 10 في المائة فقط من هؤلاء الأشخاص البلاد، 30 ألفًا على سبيل المثال، فإن اقتصاد إسرائيل المثقل بالديون مسبقًا سوف يتلاشى. وبكلمات بن ديفيد الأكثر وضوحًا:
”لن نصبح دولة من العالم الثالث، بل لن نكون موجودين على الإطلاق. 0.6 في المائة فقط من السكان هم دكاترة، ولكن مَن يُعلمهم؟ يشكل كبار كوادر الجامعات البحثية 0.1 في المائة من السكان. ويشكل العاملون في التكنولوجيا الفائقة 6 في المائة من السكان. ويبلغ عددهم جميعًا 300.000 شخص. يكفي أن تختار كتلة حرجة من هذه المجموعة عدم التواجد هنا صباح الغد، وسوف تغادر دولة إسرائيل العالم المتقدم”.
هل يغادرون؟ لك أن تراهن على أنهم يفعلون -تاركين وراءهم، أكثر نفوذًا وهيمنة من أي وقت مضى، المتعصبين ذوي الإنتاجية المنخفضة الذين يقودون حركة المستوطنين الفاشية.
وكلما كان هؤلاء المتعصبون منخفضو الإنتاجية أكثر هيمنة في الحكومة والمجتمع، زاد نزوح الإسرائيليين العاملين في قطاع التقنية الفائقة والعلمانيين والأكثر تحررية. هذا هو تعريف دوامة الانهيار.
وفي الوقت نفسه، فإن الإبادة الجماعية المستمرة في حق الفلسطينيين، وبشكل خاص هذه الطريقة التي يحتفل بها الكثير من الجنود والسياسيين الإسرائيليين في مقاطع الفيديو وفي الخطب والمنشورات، قضت على ما تبقى من وهم إسرائيل كديمقراطية ليبرالية أوروبية متأصلة في شرق أوسط معاد.
وكان هذا الوهم ركيزة أساسية للدعاية التي ساعدت جماعات الضغط الإسرائيلية على النجاح في واشنطن وأوروبا. وقد ذهب ذلك الوهم الآن، وغرق في بحر اللحم والدم الذي نثره الجيش الإسرائيلي في كل أنحاء غزة -وسيل الدمار والكراهية والوحشية التي أطلقها المستوطنون في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وبمجرد أن تذهب سمعة إسرائيل التي تم بناؤها بدهاء، وتتلطخ، فإنه لن يمكن استعادتها. وهذه أخبار جيدة بمعنى أن الخطوة الأولى نحو السلام العادل هي السقوط الأخلاقي للمعتدي.
الوضع في الأراضي المحتلة
عندما ننظر الآن إلى الحالة في الضفة الغربية، فإن من المؤلم للقلب أن نشاهد العنف المستمر الذي يُمارس ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل ظروف فصل عنصري وحشية هناك. ويأتي العنف ضدهم من ثلاث جهات: من الجيش الإسرائيلي. من المستوطنين الإسرائيليين. والأكثر مأساوية، من قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية نفسها التي -في خضم الإبادة الجماعية التي تنفذها ضد شعبها دولة الفصل العنصري- تتعاون بشكل كامل مع قوات أمن دولة الفصل العنصري تلك.
لماذا يفعل الجيش ما يفعل، نعرف. لماذا يفعل المستوطنون ما يفعلون، نعرف هذا أيضًا. ولكن لماذا تفعل قيادة السلطة الفلسطينية ما تفعل؟
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتعاون فيها السلطة الفلسطينية بشكل كامل مع المحتلين الإسرائيليين الذين يرفضون بحزم أي احتمال لقيام دولة فلسطينية -وهو الهدف المعلن للسلطة الفلسطينية.
من المؤكد بما يكفي أن قيادة السلطة الفلسطينية تفعل ما تفعل منذ سنوات. ولكن الآن، في مواجهة حملة الإبادة الجماعية الشاملة التي تشنها إسرائيل، أصبحت أعذار السلطة الفلسطينية أكثر وهنًا.تتصرف قيادة السلطة الفلسطينية، غير المنتخبة وغير التمثيلية والفاسدة بوضوح، كما لو أنها تريد أن تثير إعجاب نتنياهو وترامب وتقنعهما بأنها تستطيع القيام بعملهما القذر نيابة عنهما، مغلفة بقشرة رقيقة من الشرعية التي يضفيها عليها كونها فلسطينية؛ بأن لديها دورًا لتلعبه. إنه التماس بائس مثير للشفقة للمؤسسة الأميركية – الإسرائيلية التي تمارس الإبادة الجماعية لمنحها مهمة لتقوم بتأديتها ضد المقاومة الفلسطينية الآن، بعد أن رأى الشعب الفلسطيني حقيقتها.
لا شيء آخر يمكن أن يفسر انقلابها حتى على أعضاء “فتح” الذين يواصلون المقاومة في جنين والأماكن الأخرى.
هذا هو الجانب الأكثر بعثًا على الحزن والأكثر إحباطًا في المأساة الفلسطينية. ولذلك لن أسهب في الحديث عنه إلا لكي أؤكد مجددًا على الحاجة الملحة إلى انتخاب قيادة ممثلة -وبالتالي شرعية- للشعب الفلسطيني. لا يمكن تخيل أي سلام، ناهيك عن التفاوض عليه، بخلاف ذلك.
وآمل -وأثق في- أن الفلسطينيين سيجدون طريقة للتحدث بصوت واحد غير فصائلي. لا شيء أقل من النجاح في تحقيق ذلك يمكن أن يحدّ من الإبادة الجماعية التي يواجهونها. أما بالنسبة لبقيتنا، فيجب أن لا نقف مكتوفي الأيدي وأن نهب للمساعدة في منح هذا الصوت، صوتهم، فرصة للاستماع إليه.
باختصار، قبل أيام من دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض -وهو رجل لم يكره في أي وقت أي جريمة حرب تهدف إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية، والفلسطينيين كشعب أصلي في فلسطين- نقف الآن على مفترق طرق. ثمة الموت الهائل والدمار الكبير على الأرض الذي أحدثته إسرائيل المسلحة أميركيًا والمدعومة من الاتحاد الأوروبي.
وثمة دوامة انهيار داخل الاقتصاد الاجتماعي الإسرائيلي. وثمة دول عربية منقسمة بين أنظمة متواطئة ومواطنين غاضبين. وثمة جنوب عالمي أصبح أكثر قوة وأقل تسامحًا بشكل متزايد مع الحق الغربي الإسرائيلي الممنوح ذاتيًا في تطهير السكان الأصليين غير اليهود. وثمة رأي عام غربي لم يعد قادرًا على التظاهر بعدم المعرفة. فماذا ستكون حصيلة هذه المكونات؟
إذا كنت لأصدر تخمينًا مستنيرًا، فسيكون كما يلي: سوف تزداد الأمور سوءًا بالنسبة للفلسطينيين على المدى القصير. ولكن على المدى الطويل، تبدو إمكانية التحرر والسلام العادل لكل من الفلسطينيين، الذين يرفضون الذهاب إلى ثقب النسيان؛ والإسرائيليين، الذين يفهمون الفخ الذي أوقعهم فيه نتنياهو، أقوى مما كانت عليه في أي وقت منذ 30 عامًا.
*يوانيس جورجيو “يانيس” فاروفاكيس Ioannis Georgiou “Yanis” Varoufakis: خبير اقتصادي وسياسي يوناني وأكاديمي سابق من مواليد 24 آذار (مارس) 1961. يشغل منذ العام 2018 منصب الأمين العام لـ”حركة الديمقراطية في أوروبا 2025″ (DiEM25)، وهو حزب سياسي يساري لعموم أوروبا شارك في تأسيسه في العام 2016. في السابق، كان عضوًا في حزب “سيريزا” وكان وزيرًا للمالية اليونانية من كانون الثاني (يناير) إلى تموز (يوليو) 2015 في عهد رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس، حيث تفاوض نيابة عن الحكومة اليونانية خلال أزمة ديون الحكومة اليونانية 2009-2018.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Any Seeds of Hope Beneath the Rubble in Gaza